( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا . فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم ) . .
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة - نافذة التوبة - يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور ، وتقود القلوب إلى مصدر النور ، فلا تيئس من رحمة الله ، ولا تقنط من عفوه . فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن ، صادق النية . وآية صدق التوبة الاصلاح في العمل ، والتبيين في القول ، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه . ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة ، وهو يقول : ( وأنا التواب الرحيم )وهو أصدق القائلين .
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } أي : رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر ، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه .
وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل{[3018]} من مثل هؤلاء منهم ، ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ }
يعني تعالى ذكره بذلك أن الله واللاعنين يلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبينه للناس ، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإقرار به وبنبوّته ، وتصديقه فيما جاء به من عند الله ، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه من الأمر باتباعه ، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله من صالح الأعمال بما يرضيه عنه ، وبين الذي علم من وحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه وأظهره فلم يخفه . فأولئك ، يعني هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم ، هم الذين أتوب عليهم ، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي والإنابة إلى مرضاتي .
ثم قال تعالى ذكره : وأنَا التّوَابُ الرّحِيمُ يقول : وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عني إليّ ، والرادّها بعد إدبارها عن طاعتي إلى طلب محبتي ، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليّ أتغمدهم مني بعفو وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم بفضل رحمتي لهم .
فإن قال قائل : وكيف يتاب على من تاب ؟ وما وجه قوله : إلاّ الّذِينَ تَابُوا فأُولَئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وهل يكون تائب إلا وهو متوب عليه أو متوب عليه إلا وهو تائب ؟ قيل : ذلك مما لا يكون أحدهما إلا والاَخر معه ، فسواء قيل : إلا الذين تيب عليهم فتابوا ، أو قيل : إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم ، وقد بينا وجه ذلك فيما جاء من الكلام هذا المجيء في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَحُوا وَبَيّنُوا يقول : أصلحوا فيما بينهم وبين الله ، وبينوا الذي جاءهم من الله ، فلم يكتموه ، ولم يجحدوا به : أُولَئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وأنا التّوّابُ الرّحِيم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَحُوا وَبَيّنُوا قال : بينوا ما في كتاب الله للمؤمنين ، وما سألوهم عنه من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله في يهود .
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : وَبَيّنُوا إنما هو : وبينوا التوبة بإخلاص العمل .
ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه ، لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية على كتمانهم ما أنزل الله تعالى ذكره وبينه في كتابه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه . ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان ، فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله ويلعنه اللاعنون . ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل . والذين استثنى الله من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب : عبد الله بن سلام وذووه من أهل الكتاب الذين أسلموا فحسن إسلامهم واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم استثنى الله تعالى التائبين وقد تقدم معنى التوبة ، و{ أصلحوا } أي في أعمالهم وأقوالهم ، و { بينوا } قال من فسر الآية على العموم : معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه( {[1481]} ) ، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال : المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى ، وقد تقدم معنى توبة الله على عبده وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة .
قوله : { إلا الذين تابوا } استثناء من { الذين يكتمون } أي فهم لا تلحقهم اللعنة ، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من { الذين يكتمون ما أنزلنا } الخ .
وشُرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم ، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيراً لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره ، وإنما زاد بعده { وأصلحوا وبينوا } لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه . ولعل عطف { وبينوا } على { أصلحوا } عطف تفسير .
وقوله : { فأولئك أتوب عليهم } جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى { الذين تابوا } فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون ، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت .
وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضى الله عنهم .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن مسعود قال رسول الله : " للَّهُ أَفْرَحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده " .
فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلاّ الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم ، أي أرضى ، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع .