والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض ، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل . . الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية ، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ، ومن تضحيات وآلام ، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديرا صحيحا :
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . .
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله ، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق ، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم : أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور ، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر ، وحسبما ترى العين . ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة . . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد . وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع . . وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة ، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد ، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها ، وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار ، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به : ( أحياء ولكن لا تشعرون ) . . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى ، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ، ولا يتعاظمها الأمر ، ولا يهولنها عظم الفداء . ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله ، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه :
في صحيح مسلم : " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " . .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ ص ] : " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد ، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة " . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ؟ إنهم أولئك الذين يقتلون ( في سبيل الله ) . . في سبيل الله وحده ، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده ، لا في أي سبيل آخر ، ولا تحت أي شعار آخر ، ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث ، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله [ ص ] عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ؟ فقال : " لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول : " لا أجر له " . [ أخرجه أبو داود ] .
وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ، لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم اغزو فأقتل ، ثم اغزو فأقتل " [ أخرجه مالك والشيخان ] .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله ، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله ، وإيمان به ، وتصديق برسله .
ولقد كره رسول الله [ ص ] لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد : عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه [ وكان مولى من أهل فارس ] قال : [ شهدت مع النبي [ ص ] أحدا . فضربت رجلا من المشركين ، فقلت : خذها وأنا الغلام الفارسي . فالتفت إلي النبي [ ص ] فقال : " هلا قلت : وأنا الغلام الأنصاري ؟ إن ابن أخت القوم منهم ، وإن مولى القوم منهم " ] [ أخرجه أبو داود ] .
فقد كره له [ ص ] أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي [ ص ] ، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين . . وهذا هو الجهاد . وفيه وحده تكون الشهادة ، وتكون الحياة للشهداء .
وقوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون ، كما جاء في صحيح مسلم : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت{[2968]} ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش ، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة ، فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا ، وأيّ شيء نبغي ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا ، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا ، قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا ، فنقاتل في سبيلك ، حتى نقتل فيك مرة أخرى ؛ لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جلّ جلاله : إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون " {[2969]} .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " {[2970]} .
ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا ، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا {[2971]} بالذكر في القرآن ، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما{[2972]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ }
يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم وترك معاصيّ وأداء سائر فرائضي عليكم ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هو ميت ، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه ، فلا يلتذّ لذّة ولا يدرك نعيما ، فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي أحياء عندي في حياة ونعيم وعيش هنيّ ورزق سنيّ ، فرحين بما آتيتهم من فضلي وحبوتهم به من كرامتي . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ من ثمر الجنّة ويجدون ريحها وليسوا فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ كنّا نُحَدّث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم سدرة المنتهى ، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير : من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا ، ومن غُلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ قال : أرواح الشهداء في صور طير بيض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ في صور طير خضر يطيرون في الجنّة حيث شاءوا منها يأكلون من حيث شاءوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عثمان بن غياث ، قال : سمعت عكرمة يقول في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ قال : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنّة .
فإن قال لنا قائل : وما في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم ، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى الجنة يشمون منها ريحها ، ويستعجلون الله قيام الساعة ، ليصيروا إلى مساكنهم منها ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها ، وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار ينظرون إليها ويصيبهم من نتنها ومكروهها ، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ، ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة حذارا من المصير إلى ما أعدّ الله لهم فيها مع أشباه ذلك من الأخبار . وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي خصّ به القتيل في سبيل الله مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ ، أما الكفار فمعذّبون فيه بالمعيشة الضّنْك ، وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان ؟
قيل : إن الذي خصّ الله به الشهداء في ذلك وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه . فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم ، والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخبر عنهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .
وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الشّهَدَاءُ عَلَى بارِقٍ نَهْرٍ بِبابِ الجَنّةِ فِي قُبّةٍ خَضْرَاءَ » وقال عبدةُ : «فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا » .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن الإفريقي ، عن ابن بشار السلمي أو أبي بشار ، شك أبو جعفر قال : أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنة في كل قبة زوجتان ، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثور وحوت ، فأما الثور ففيه طعم كل ثمرة في الجنة ، وأما الحوت ففيه طعم كل شراب في الجنة .
فإن قال قائل : فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غير موجود في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وإنما فيه الخبر عن حالهم أموات هم أم أحياء .
قيل : إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما قد خصّ به الشهداء في قوله : وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون وعلموا حالهم بخبره ذلك ، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله : وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ نَهْيُ خَلْقِه عن أن يقولوا للشهداء إنهم موتى ، ترك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم .
وأما قوله : وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ فإنه يعني به : ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به . وإنما رفع قوله : «أموات » بإضمار مكنيّ عن أسماء من يقتل في سبيل الله .
ومعنى ذلك : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات . ولا يجوز النصب في الأموات ، لأن القول لا يعمل فيهم . وكذلك قوله : «بل أحياء » ، رفع بمعنى أنهم أحياء .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ( 154 )
وقوله تعالى : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } الآية ، سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد مات فلان ومات فلان ، فكره الله أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، وأيضاً : فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم ، تعظم منزلة الشهداء ، وتخبر عن حقيقة حالهم ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ، ويبين ذلك من حديث أم حارثة في السير( {[1429]} ) ، والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق( {[1430]} ) ، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة( {[1431]} ) ، وروي أنهم في قبة خضراء ، وروي أنهم في قناديل من ذهب ، إلى كثير من هذا ، ولا محالة أنها أحوال لطوائف( {[1432]} ) أو للجميع في أوقات متغايرة ، وجمهور العلماء على أنهم في الجنة ، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة : إنه في الفردوس ، وقال مجاهد : هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها ، و { أموات } رفع بإضمار الابتداء والتقدير هم أموات ، ولا يجوز إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب كما يصح في قولك قلت كلاماً وحجة .
وقوله { ولكن لا تشعرون } أي قبل أن نشعركم( {[1433]} ) .
قوله : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله ، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه ، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة ، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية ، فقوله : { ولا تقولوا } نهي عن القول الناشىء عن اعتقاد ، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا ، والظاهر أن هذا تكميل لقوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال : " قتل أناس قبل تحويل القبلة " فأعقب قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة .
وارتفع { أمواتٌ } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات .
و { بل } للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله ، والتقدير بل هم أحياء ، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ ، فقوله : « أحْيَآء » هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد { بل } الإضرابية .
وإنما قال : { ولكن لا تشعرون } للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية ، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح ، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم ، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة ، ولذلك ورد في الحديث " إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها " . والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية ، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها .