اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (160)

في الاستثناءِ وَجْهَان :

أحدهما : أن يكون متَّصِلاً ، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في " يلعنُهم " .

والثاني : أن يكُونَ منقطعاً ؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا ، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا . وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ ؛ لبَيَانِ قَبُول التَّوْبَةِ ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا ، نقل ذلك أبو البَقَاء{[2079]} .

قال بعضُهُمْ : " ولَيْسَ بشَيْءٍ " .

فَصْل

اعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بيَّن عظيمَ الوَعِيدِ ، فكان يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الوعيدَ يلحقُهُمْ على كُلِّ حالٍ ، فبيَّن تعالَى أَنَّهُمْ إذا تابُوا ، تغيَّر حُكْمُهم ، ودَخَلُوا في أهْلِ الوعْدِ . والتَّوْبةُ عبارةٌ عن النَّدَم على فِعْلِ القبيح لقُبْحِهِ ، لا لِغَرَضٍ سِوَاه ؛ لأنَّ مَنْ لم يَرُدَّ الوديعَة ، ثم ندمِ للَوْمِ الناس وذمِّهم ، أو لأنَّ الحاكم رَدَّ شهادتَهُ لم يكُنْ تائباً ، وكَذَلِكَ ، لو عَزَمَ على رَدِّ الودائعِ والقيام بالواجِبَاتِ ؛ لكي تُقْبَلَ شهادتُهُ أو يُمْدَحَ بالثَّنَاءِ علَيْه ، لم يكن تائِباً وهذا مَعْنَى الإِخْلاَّص في التوبة ثم بيَّن تعالى أنه لا بُدَّ له بَعْدَ التوبة مِنْ إصْلاح ما أفْسَدَهُ مثلاً ، لو أفْسَد على رجُلِ دِينَهُ بإيرادِ شُبْهَةٍ عَلْيه ، يلْزَمُه إزالَة تِلْكَ الشُّبْهَةِ ، ثمَّ بيَّن بأنه يجبُ علَيْه بعْدَ ذلك أَنْ يَفْعَلَ ضِدَّ الكِتْمَانِ ، وهُو البَيَانُ بقَوْله " وَبَيَّنُوا " فدلَّت الآيةُ على أنَّ التَّوْبة لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَرْكِ كُلِّ ما ينبغي .

وقيلَ : بَيَّنوا تَوْبَتَهُمْ وصَلاَحَهُم . قال ابْنُ الْخَطِيبِ{[2080]} : قالَتِ المُعْتَزِلةُ : الآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ التَّوْبة عن بَعْضِ المعاصِي مع الإصْرَار عَلى البَعْضِ لا تَصِحُّ ؛ لأن قوله " وَأَصْلَحُوا " عامٌّ في الكلِّ .

والجوابُ : أَنَّ اللفْظ المُطْلَق يكْفِي في صِدْقه حُصُولُ فَرْدٍ واحدٍ مِنْ أفْراده .

وقولُه : " أَتُوبُ عَلَيْهِمْ " أَتَجَاوَرُ عنْهم ، وأَقْبَلُ تَوْبتهمْ . " وَأَنَا التَّوَّابُ " الرَّجَّاع بقُلُوبِ عبَادِي المنْصَرفة عَنِّي إلَيَّ ، القَابِلُ لِتَوْبة كلِّ ذي توبةٍ ، الرحيمُ بِهِمْ بَعْدَ إقْبَالهم عَلَيَّ .


[2079]:- ينظر الإملاء: 1/71.
[2080]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/150.