التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (160)

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ { 159 } إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { 160 } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ { 161 } خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ { 162 } } .

في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة .

تعليق على الآية

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى . . . } إلخ

والآيات الثلاث التالية لها

روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات . والرواية لم ترد في الصحاح . وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى . وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما . وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك . وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال : إن هذا الفصل ينطوي على مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس .

ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم .

والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر .

ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة ؛ حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين . ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص : «من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »{[228]} . ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي . ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم ، بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبيتها سواء أسئل أم لم يسأل ، وفي آية سورة آل عمران هذه : { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } [ 157 ] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى اعلم .

ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جلمة { وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله . ولم يرو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر ، والله أعلم .

وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم .

والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين ، ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء ، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة ، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه .

وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها ، وأنه إنما يظل وارداً ولازماً بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار .

استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم

ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات ، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين ، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية . وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين . ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه ؛ لأنه يكون مستحقا للعن ، وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم . ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه ؛ لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا . وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى قال : «من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله » {[229]} . وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه : «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّاباً . كان يقول عند المعتبة : مَا لَه تَرِبَ جبينه » {[230]} وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «قيلَ يا رسول الله ادع على المشركين ، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة » {[231]} . وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه : «من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه » {[232]} . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء » {[233]} .

ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيراً من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن . وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية ، وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية . بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقيناً باء بالنعت . وفي كل هذا وجاهة ظاهرة . وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب .

استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات

ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذاراً لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب . برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من كتاب الله صفات عليّ وخلقه ، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين . والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر {[234]} .


[228]:انظر التاج، 1/58
[229]:التاج، 5/33-34
[230]:نفسه
[231]:نفسه
[232]:نفسه
[233]:نفسه
[234]:انظر التفسير والمفسرون للذهبي، 2/86