ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع : ( تؤمنون بالله ورسوله ) . . وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم ! ( وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) . . وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة ، يجيء في هذا الأسلوب ، ويكرر هذا التكرار ، ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار ، وهذا التنويع ، وهذه الموحيات ، لتنهض بهذا التكليف الشاق ، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . . ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين : ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . . فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل هذا الخير في آية تالية مستقلة ، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه ، ويقره في الحس ويمكن له :
يقول تعالى { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ }موجع ، وذلك عذاب جهنم ثم بين لنا جلّ ثناؤه ما تلك التجارة التي تنجينا من العذاب الأليم ، فقال : { تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ }محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن قال قائل : وكيف قيل : { تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ } ، وقد قيل لهم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا }بوصفهم بالإيمان ؟ فإن الجواب في ذلك نظير جوابنا في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا } بالله وقد مضى البيان عن ذلك في موضعه بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } يقول تعالى ذكره : وتجاهدون في دين الله ، وطريقه الذي شرعه لكم بأموالكم وأنفسكم ، { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ }يقول : إيمانكم بالله ورسوله ، وجهادكم في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم خَيْرٌ لَكُمْ من تضييع ذلك والتفريط { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }مضارّ الأشياء ومنافعها . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «آمِنُوا باللّهِ » على وجه الأمر ، وبيّنت التجارة من قوله : { هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ }وفسّرت بقوله : { تُؤمِنُونَ باللّهِ }ولم يقل : أن تؤمنوا ، لأن العرب إذا فسرت الاسم بفعل تثبت في تفسيره أن أحيانا ، وتطرحها أحيانا ، فتقول للرجل : هل لك في خير تقوم بنا إلى فلان فنعوده ؟ هل لك في خير أن تقوم إلى فلان فنعوده ؟ ، بأن وبطرحها . ومما جاء في الوجهين على الوجهين جميعا قوله : فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ أنّا وإنا فالفتح في أنا لغة من أدخل في يقوم أن من قولهم : هل لك في خير أن تقوم ، والكسر فيها لغة من يُلقي أن من تقوم ومنه قوله : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنّا دَمّرْناهُمْ وإنا دمرناهم ، على ما بيّنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ . . . }الآية ، فلولا أن الله بينها ، ودلّ عليها المؤمنين ، لتلهف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها ، حتى يضنوا بها وقد دلكم الله عليها ، وأعلمكم إياها فقال : { تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة : { هَلْ أدُلّكُمْ على تجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ تُوءْمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : الحمد لله الذي بينها .
وقوله تعالى : { تؤمنون } لفظه الخبر ومعناه الأمر أي آمنوا ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «أليم آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا » ، وقوله :{ تؤمنون } فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون{[11080]} ، وقال الأخفش : هو عطف بيان على { تجارة } ، قال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ولذلك جاء { يغفر } مجزوماً ، وقوله تعالى : { ذلكم } أشار إلى الجهاد والإيمان ، و { خير } هنا يحتمل أن يكون للتفضيل ، فالمعنى من كل عمل ، ويحتمل أن يكون إخباراً ، أن هذا خير في ذاته ونفسه .
وجملة { تؤمنون بالله ورسوله } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويقُ الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة .
وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فِعْل { تؤمنون بالله } مع { وتجاهدون } مراد به تجمعون بين الإِيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويهاً بشأن الجهاد . وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإِيمان وتجديده في كل آن ، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإِيمان وشؤونه .
وأما { وتجاهدون } فإنه لإِرادة تجدّد الجهاد إذا استُنفِروا إليه .
ومجيء { يغفر } مجْزوماً تنبيه على أن { تؤمنون } { وتجاهدون } وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمرُ لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر . قاله المبرد والزمخشري .
وقال الفراء : جزم { يغفرْ } لأنه جواب { هل أدلكم } ، أي لأن متعلق { أدلكم } هو التجارة المفسرة بالإِيمان والجهاد ، فكأنه قيل : هل تتَّجرون بالإِيمان والجهاد يَغفرْ لكم ذنوبكم .
وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإِيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وامتثله .
وقرأ الجمهور { تنجيكم } بسكون النون وتخفيف الجيم . وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم ، يقال : أنجاه ونَجّاه .
والإِشارة ب { ذلكم } إلى الإِيمان والجهاد بتأويل المذكور : خير .
و { خير } هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله : أخير ووزنه : أَفعل ، بل هو اسم لضد الشر ، ووزنه : فَعْل .
وجمع قوله : { خير } ما هو خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة .
وقوله : { إن كنتم تعلمون } تعريض لهم بالعتاب على تولّيهم يوم أُحُد بعد أن قالوا : لو نعلم أيَّ الأعمال أحب إلى الله لَعَمِلْنَاه ، فندبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أُحُد ، كما تقدم في أول السورة ، فنزلوا منزلة من يُشَك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجَب العلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.