اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (11)

قوله : { تُؤْمِنُونَ }لا محلّ له لأنه تفسير ل «تجارة » ، ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر ، أي تلك التجارة تؤمنون ، والخبر نفس المبتدأ ، فلا حاجة إلى رابط ، وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل ، أي «أعني تؤمنون » ، وجاز ذلك على تقدير «أن » وفيه تعسف{[56477]} ، والعامة على : «تؤمنون » خبراً لفظياً ثابت النون ، وعبد الله{[56478]} : «آمنُوا ، وجاهدُوا » أمرين .

وزيد بن علي{[56479]} : «تؤمنوا ، وتجاهدوا » بحذف نون الرفع .

فأما قراءة العامة ، فالخبر بمعنى الأمر ، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد : على حذف لام الأمر ، أي : «لتؤمنوا ، ولتجاهدوا » .

كقوله : [ الوافر ]

4765 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ *** . . . {[56480]}

وقوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة }[ إبراهيم : 31 ] في وجه ، أي : لتَفْدِ ولتقيموا ، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله : «يتقي » .

وكذلك قولهم : «اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه » ، تقديره : ليتق الله .

وقال الأخفش : أن «تؤمنون » : عطف بيان ل «تجارة » ، وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل : أن تؤمنوا ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله : [ الطويل ]

4766 - ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى *** . . . {[56481]}

الأصل : أن أحضر الوغى ، وكأنه قيل : هل أدلّكم على تجارة منجية : إيمان وجهاد ، وهو معنى حسن ، لولا ما فيه من التأويل ، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من «تِجارةٍ » .

وقال الفراء{[56482]} : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : «هل أدلكم » .

واختلف الناس في تصحيح هذا القول{[56483]} .

فبعضهم غلطه . قال الزجاج{[56484]} : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا .

يعني : أنه ليس مرتباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة .

قال القرطبي{[56485]} : و«تُؤمِنُونَ » عند المبرد والزجاج في معنى «آمِنُوا » ولذلك جاء «يَغْفِر لَكُمْ » مجزوماً على أنه جواب الأمر .

قال ابن الخطيب{[56486]} : «هَلْ أدلكُمْ » في معنى الأمر عند الفرَّاء ، يقال : هل أنت ساكت أي : اسكت ، وبيانه أن «هَلْ » بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضاً وحثًّا ، والحث كالإغراء ، والإغراء أمر .

وقال المهدوي : إنما يصح حمله على المعنى ، وهو أن يكون «تُؤمِنُونَ ، وتجاهدون » : عطف بيان على قوله : «هل أدلكم » .

كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قيل : هل تؤمنون وتجاهدون ؟ .

قال{[56487]} : فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير إن دُللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة .

وقال الزمشخري قريباً منه أيضاً ، وقال أيضاً{[56488]} : إن «تؤمنون » استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، وقال ابن عطيَّة{[56489]} : «تُؤمِنُونَ » : فعل مرفوع ، تقديره : ذلك أنه تؤمنون ، فجعله خبراً ، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف ، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه{[56490]} .

فصل :

قال ابن الخطيب{[56491]} : فإن قيل : كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ } ؟ .

فالجواب : يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر ، ويمكن أن يكون أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة .

فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد ، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً }[ التوبة : 124 ] ، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان ، كقوله : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت }[ إبراهيم : 27 ] .

فإن قيل : كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع ؟ .

فالجواب : أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر .

قوله : { بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } قال القرطبي{[56492]} : ذكر الأموال أولاً ، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق ، «ذَلِكُمْ » أي : هذا الفعل { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم .


[56477]:ينظر: الدر المصون 6/312.
[56478]:ينظر: الكشاف 4/526، والمحرر الوجيز 5/304، والدر المصون 6/312، والبحر المحيط 8/260.
[56479]:ينظر: البحر المحيط 8/260، والدر المصون 6/312.
[56480]:تقدم.
[56481]:تقدم.
[56482]:ينظر: معاني القرآن له 3/154.
[56483]:ينظر: الدر المصون 6/312.
[56484]:ينظر: معاني القرآن 5/166.
[56485]:الجامع لأحكام القرآن 18/57.
[56486]:التفسير الكبير 29/274.
[56487]:ينظر: القرطبي 18/57.
[56488]:ينظر: الكشاف 4/526.
[56489]:ينظر: المحرر الوجيز 5/304.
[56490]:ينظر: الدر المصون 6/313.
[56491]:التفسير الكبير 29/275.
[56492]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/57.