وهنا يصور من عدم فلاحهم موقفهم يوم الحشر والحساب ، في هذا المشهد الحي الشاخص الموحي :
( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
إن الشرك ألوان ، والشركاء ألوان ، والمشركين ألوان . . وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين : من أن هناك ناسا كانوا يعبدون أصناما أو أحجارا ، أو أشجارا ، أو نجوما ، أو نارا . . الخ . . هي الصورة الوحيدة للشرك !
إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله - سبحانه - بإحدى خصائص الألوهية . . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات . أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها . أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة . . كلها ألوان من الشرك ، يزاولها ألوان من المشركين ، يتخذون ألوانا من الشركاء !
والقرآن الكريم يعبر عن هذا كله بالشرك ؛ ويعرض مشاهد يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء ؛ ولا يقتصر على لون منها ، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها ؛ ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعا :
كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله ، لها مشاركة - عن طريق الشفاعة الملزمة عندالله - في تسيير الأحداث والأقدار . كالملائكة . أو عن طريق قدرتها على الأذى - كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم - أو عن طريق هذه وتلك - كأرواح الآباء والأجداد - وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات ؛ ويستنطقها الكهان ؛ فتحل لهم ما تحل ، وتحرم عليهم ما تحرم . . وإنما هم الكهان في الحقيقة . . هم الشركاء !
وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام ؛ وتقديم القربان لها والنذور - وفي الحقيقة للكهان - كما أن بعضهم - نقلا عن الفرس - كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث - عن طريق المشاركة لله - ويتقدمون لها كذلك بالشعائر [ ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه السلام بموضوع السورة كما سيأتي ] .
وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم - عن طريق الكهان والشيوخ - شرائع وقيما وتقاليد ، لم يأذن بها الله . . وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله ! وفي هذا المشهد - مشهد الحشر والمواجهة - يواجه المشركين - كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك - بسؤالهم عن الشركاء - كل أصناف الشركاء - أين هم ؟ فإنه لا يبدو لهم أثر ؛ ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب :
( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ) . .
والمشهد شاخص ، والحشر واقع ، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم . . الأليم : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ) . .
وهنا يفعل الهول فعله . . هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا . . هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة - كما هو منعدم في الواقع والحقيقة - وجود الشركاء ؛ فيشعرون أنه لم يكن شرك ، ولم يكن شركاء . . لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع . .
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا [ لهم ]{[10609]} { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } كما قال تعالى في سورة القصص : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الآية : 62 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء المفترين على الله كذبا والمكذّبين بآياته ، لا يفلحون اليوم في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا ، يعني : ولا في الاَخرة . ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف .
وتأويل الكلام : إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا فقوله : «ويوم نحشرهم » ، مردود على المراد في الكلام ، لأنه وإن كان محذوفا منه فكأنه فيه لمعرفة السامعين بمعناه . ثم نَقُولُ للّذِينَ أشْرَكُوا أيْنَ شُرَكاؤُكُم يقول : ثم نقول إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب بادّعائهم له في سلطانه شريكا والمكذّبين بآياته ورسله ، فجمعنا جميعهم يوم القيامة : أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم لكم آلهة من دون الله ، افتراء وكذبا ، وتدعونهم من دونه أربابا ، فأتوا بهم إن كنتم صادقين .
{ ويوم نحشرهم جميعا } منصوب بمضمر تهويلا للأمر . { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء ، لله وقرأ يعقوب " يحشرهم " ويقول بالياء . { الذين كنتم تزعمون } أي تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها ، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم .
قالت فرقة : { لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] كلام تام معناه لا يفلحون جملة ، ثم استأنف فقال : واذكر يوم نحشرهم ، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا { ويوم نحشرهم } عطفاً على الظرف المقدر والكلام متصل ، وقرأت طائفة «نحشرهم » و «نقول » بالنون ، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء ، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين{[4862]} «نحشرهم ونقول » بالنون ، وقرأ في باقي القرآن بالياء ، وقرأ أبو هريرة «نحشِرهم » بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر ، واضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة و { تزعمون } معناه تدعون أنهم لله ، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم ، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب ، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم الخليل ، ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.