فإذا انتهى السياق من هذا كله ساق العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله ، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا . وعلق هذه العبرة على الرؤوس ، تذكرهم بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتقي ولا يطيع . كما تذكرهم بنعمة الله على المؤمنين المخاطبين بالسورة والتشريع :
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ، فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها ، وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا . فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . قد أحسن الله له رزقا . .
وهو إنذار طويل وتحذير مفصل المشاهد . كما أنه تذكير عميق بنعمة الله بالإيمان والنور ، ووعده بالأجر في الآخرة وهو أحسن الرزق وأكرمه .
فأخذ الله لمن يعتو عن أمره ولا يسلم لرسله هو سنة متكررة : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ) . وتفصيل أخذها وذكر الحساب العسير والعذاب النكير ،
قوله عز وجل{ وكأين من قرية عتت } عصت وطغت ، { عن أمر ربها ورسله } أي : وأمر رسله ، { فحاسبناها حساباً شديدا } بالمناقشة والاستقصاء ، قال مقاتل : حاسبها بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب ، وهو قوله : { وعذبناها عذاباً نكراً } منكراً فظيعاً ، وهو عذاب النار . لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، مجازها : فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً .
قوله تعالى : " وكأين من قرية " لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الأمر ، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم . وقد مضى القول في " كأين " في " آل عمران{[15107]} " والحمد لله . " عتت عن أمر ربها ورسله " أي عصت ؛ يعني القرية والمراد أهلها . " فحاسبناها حسابا شديدا " أي جازيناها بالعذاب في الدنيا " وعذبناها عذابا نكرا " في الآخرة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب ، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا . والنكر : المنكر . وقرئ مخففا ومثقلا ، وقد مضى في سور " الكهف{[15108]} " .
{ فحاسبناها حسابا شديدا } أي : حاسبنا أهلها قيل : يعني الحساب في الآخرة وكذلك العذاب المذكور بعده وقيل : يعني في الدنيا وهذا أرجح لأنه ذكر عذاب الآخرة بعد ذلك في قوله : { أعد الله لهم عذابا شديدا } ، أو لأن قوله { حاسبناها } { وعذبناها } بلفظ الماضي فهو حقيقة فيما وقع مجاز فيما لم يقع فمعنى { حاسبناها } أي : آخذناهم بذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها والعذاب هو عقابهم في الدنيا والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله .
ولما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع ، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات ، فإن من الناس البليد الذي لا يتعظ بما يرى ، وكان التقدير : فكأي من ناس{[66137]} كانوا في غاية الضيق فأطاعوا أوامرنا فجعلناهم في غاية السعة بل جعلناهم ملوكاً ، عطف عليه تزهيداً في الرفاهية بأنها تطغى في الأغلب ، وتهديداً لأهل المعاصي قوله مفيداً لكثرة القرى الخارجة عن الحد : { وكأين من قرية } أي مدينة كبيرة جامعة ، عبر عن أهلها بها{[66138]} مبالغة { عتت } أي استكبرت وجاوزت{[66139]} الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً { عن أمر ربها } أي الذي أحسن إليها ولا محسن إليها{[66140]} غيره بكثرة الرزق وطيب العيش واللطف في التربية والرحمة بعد{[66141]} الإيجاد والملك { ورسله } فلم يقبل منهم ما جاؤوها به عن الله ، فإن طاعتهم من طاعة الله .
ولما كانت محاسبة مثل هؤلاء للإهلاك{[66142]} لأن الحساب هو ذكر الأعمال والمجازاة عليها بما{[66143]} يحق لكل منها ، قال ملتفتاً إلى مقام التكلم في مظهر العظمة : { فحاسبناها } أي فتسبب عن عدم شكرهم للإحسان أن أحصينا أعمالها . ولما كان ذلك على وجه المناقشة على{[66144]} النقير والقطمير بالمجازاة على {[66145]}كل{[66146]} فعل بما يليق به قال : { حساباً شديداً } بمعناه المطابقي{[66147]} من ذكر الأعمال كلها والمجازاة عليها ، وهذا هو المناقشة وهي{[66148]} أن العامل إذا أثر أثراً بعمله هو كالنقش في الجامد أثر المجازي له فيه{[66149]} أثراً بحسب عمله على سبيل الاستقصاء ، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها{[66150]} فهو دلالة تضمن ، وإنما {[66151]}شدد على{[66152]} هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتواً { وعذبناها } أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها { عذاباً نكراً * } أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريباً منه ليعتبره به{[66153]} ، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقاً في وقت من الأوقات