{ أفعيينا بالخلق الأول } تقرير لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة . أي أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة ! أي لم نعى له ولم نعجز عنه ؛ من عيي بالأمر ؛ إذا عجز عنه وانقطعت حيلته فيه ، ولم يهتد لوجه مراده [ آية 33 الأحقاف ص 324 ] . { بل هم في لبس } أي هم مقرون بأنا خلقنا الخلق الأول ، فكيف ينكرون قدرتنا على إعادته ! بل هم في خلط وشبهة{ من خلق جديد } مستأنف لما فيه من مخالفة العادة . يقال : لبس عليه الأمر – من باب ضرب – خلطه . وألبسه : غطاه .
ثم استدل تعالى بالخلق الأول -وهو المنشأ الأول{[819]} - على الخلق الآخر ، وهو النشأة الآخرة .
فكما{[820]} أنه الذي أوجدهم بعد العدم ، كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى [ الرفات ] والرمم ، فقال : { أَفَعَيِينَا } أي : أفعجزنا وضعفت قدرتنا { بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } ؟ ليس الأمر كذلك ، فلم نعجز ونعي عن ذلك ، وليسوا في شك من ذلك ، وإنما هم في لبس من خلق جديد هذا الذي شكوا فيه ، والتبس عليهم أمره ، مع أنه لا محل للبس فيه ، لأن الإعادة ، أهون من الابتداء كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }
{ أفعيينا بالخلق الأول } يقال عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه والخلق الأول خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ، وقيل : يعني خلق آدم ، وقيل : خلق السماوات والأرض ، والأول أظهر ، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار .
{ بل هم في لبس من خلق جديد } أي : هم في شك من البعث وإنما نكر الخلق الجديد لأنه كان غير معروف عند الكفار المخاطبين وعرف الخلق الأول لأنه معروف معهود .
ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم ، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم ، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريراً لحقوق الوعيد ، فقال مسبباً عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود : { أفعيينا بالخلق } أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء ، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه { الأول } أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم ، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً ، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة ، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانياً ، يقال : عيي بالأمر - إذا لم يهتد {[61135]}لأمره أو لوجه{[61136]} مراده أو عجز عنه ، ولم يطق{[61137]} إحكامه .
ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار : لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه ، وفي طيه-{[61138]} الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال : { بل هم في لبس } أي خلط شديد وشبهة موجبة-{[61139]} للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى ، بل السكوت عنه أجمل ، قال علي رضي الله عنه : يا جار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف بالحق تعرف أهله . ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى { من } أجل { خلق جديد * } أي الإعادة{[61140]} .