وكذلك خلقة الذكر والأنثى . . إنها في الانسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم . وخلية تتحد ببويضة . ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف ? ما الذي يقول لهذه : كوني ذكرا . ويقول لهذه : كوني أنثى ? . . إن كشف هذه العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكرا ، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئا . . فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك ? وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكرا ، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها ، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى ?
مصادفة ? ! إن للمصادفة كذلك قانونا يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة . . فلا يبقى إلا أن هنالك مدبرا يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة . فلا مجال للمصادفة ، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلا .
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات . فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات . . قاعدة واحدة في الخلق لا تختلف . لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء . .
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية ، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله - سبحانه - بها ، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها . والتي يجعلها السياق القرآني إطارا لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى . .
{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } إن كانت " ما " موصولة ، كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة ، بأنه{[1441]} خالق الذكور والإناث ، وإن كانت مصدرية ، كان قسمًا بخلقه للذكر والأنثى ، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى ، ليبقى النوع ولا يضمحل ، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة ، وجعل كلًا منهما مناسبًا للآخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
" وما خلق الذكر والأنثى " قال الحسن : معناه والذي خلق الذكر والأنثى ، فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل . وقيل : معناه وخلق الذكر والأنثى ، ( فما ) : مصدرية على ما تقدم . وأهل مكة يقولون للرعد : سبحان ما سبحت له ( فما ) على هذا بمعنى ( من ) ، وهو قول أبي عبيدة وغيره . وقد تقدم . وقيل : المعنى وما خلق من الذكر والأنثى ، فتكون " من " مضمرة ، ويكون القسم منه بأهل طاعته ، من أنبيائه وأوليائه ، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا . وقال أبو عبيدة : " وما خلق " أي من خلق . وكذا قوله : " والسماء وما بناها " [ الشمس : 5 ] ، " ونفس وما سواها " [ الشمس : 7 ] ، " ما " في هذه المواضع بمعنى من . وروي . ابن مسعود أنه كان يقرأ " والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى " ويسقط " وما خلق " . وفي صحيح مسلم عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله ؟ فقلت : نعم ، أنا . قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية " والليل إذا يغشى " ؟ قال : سمعته يقرأ " والليل إذا يغشى . والذكر والأنثى " قال : وأنا واللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ " وما خلق " فلا أتابعهم{[16106]} .
قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال : أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " إني أنا الرازق ذو القوة المتين " . قال أبو بكر : كل من هذين الحديثين مردود ، بخلاف الإجماع له ، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين ، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة ، وما يبنى على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه ، أخذ برواية الجماعة ، وأبطل نقل الواحد ؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال . ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا ، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي اللّه عنهم يخالفونه ، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة ، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد ، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة ، وجميع أهل الملة .
وفي المراد بالذكر والأنثى قولان : أحدهما : آدم وحواء . قاله ابن عباس والحسن والكلبي . الثاني : يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم ؛ لأن اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم . وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية اللّه وطاعته .