في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (250)

243

ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين . . إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ، الثابتة ، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها . . إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب :

( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة ، وعلمه مما يشاء ) . .

هكذا . ( ربنا أفرغ علينا صبرا ) . . وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة . ( وثبت أقدامنا . ) فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد . ( وانصرنا على القوم الكافرين ) . . فقد وضح الموقف . . إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور ، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (250)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولما برزوا} لقتال {جالوت وجنوده}، قال أصحاب الغرفة: {ربنا أفرغ علينا صبرا}: ألق، أصبب علينا صبرا. {وثبت أقدامنا} عند القتال حتى لا تزول. {وانصرنا على القوم الكافرين}: جالوت وجنوده، وكانوا يعبدون الأوثان.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده. ومعنى قوله:"بَرَزُوا": صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. "رَبّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرا": أن طالوت وأصحابه قالوا: "رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا": أنزل علينا صبرا. "وَثَبّتْ أقْدَامَنا": وقوّ قلوبنا على جهادهم لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم. "وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ": الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك واتخذوا الأوثان أربابا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وهكذا الواجب على كل من لقي العدو أن يدعو بمثل هذا... فاستجاب الله دعاءهم، وهزم عدوهم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} كما يفرغ الدلو.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو، ثم بعده النصرة عليهم، فإن الصبر حق الحق، والنصرة نصيبهم، فقدَّموا تحقيق حقه -سبحانه- وتوفيقه لهم، ثم وجود حظِّهم من النصرة، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم -لا للانتقام منهم لأَجْل ما فاتهم من نصيبهم- ولكن لكونهم كافرين، أعداء الله. فقاموا بكل وجهٍ لله بالله؛ فلذلك نُصِرُوا وَوَجدوا الظفر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحرب من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً...}: والإفراغ أعظم الصب، كأنه يتضمن عموم المفرغ عليه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة:

فأولها: أن يكون الإنسان صبورا على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة، وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جبانا لا يحصل منه مقصود أصلا. وثانيها: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار.

وثالثها: أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو. إذا عرفت هذا فنقول: المرتبة الأولى: هي المراد من قوله: {أفرغ علينا صبرا}. والثانية: هي المراد بقوله: {وثبت أقدامنا}. والثالثة: هي المراد بقوله: {وانصرنا على القوم الكافرين}...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{ربنا أفرغ علينا صبرا}؛ الصبر: هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى، فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً...}. دَعَوْا بالأمر المعنوي وهو الصبر وبالحسي، والمراد بتثبيت الأقدام عدم الرجوع على الأعقاب، وليس المراد الوقوف في موضع واحد وابتدأوا في الدعاء بالصبر لأنه سبب في تثبيت الأقدام...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم بين أنهم صدقوا قولهم قبل المباشرة بالفعل عندها، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلما قالوا لهم ذلك جمع الله كلمتهم فاعتمدوا عليه وبرزوا للقتال بين يديه: {ولما برزوا} وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة، والبروز هو الخروج عن كل شيء يوارى في براز من الأرض وهو الذي لا يكون فيه ما يتوارى فيه عن عين الناظر {لجالوت} اسم ملك من ملوك الكنعانيين كان بالشام في زمن بني إسرائيل {وجنوده} على ما هم عليه من القوة والكثرة والجرأة بالتعود بالنصر

{قالوا ربنا أفرغ} من الإفراغ وهو السكب المفيض على كلية المسكوب عليه {علينا صبراً} حتى نبلغ من الضرب ما نحب في مثل هذا الموطن

{وثبت} من التثبيت تفعيل من الثبات وهو التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال {أقدامنا} جمع قدم وهو ما يقوم عليه الشيء ويعتمده، أي بتقوية قلوبنا حتى لا نفر وتكون ضرباتنا منكبة موجعة وأشاروا بقولهم {وانصرنا على القوم الكافرين} موضع قولهم: عليهم، إلى أنهم إنما يقاتلونهم لتضييعهم حقه سبحانه وتعالى لا لحظ من حظوظ النفس كما كان من معظمهم أول ما سألوا وإلى أنهم أقوياء فلا بد لهم من معونته عليهم سبحانه وتعالى.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى:

أما أولاً: فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال.

وأما ثانياً: فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه.

وأما ثالثاً: فلأن فيه التعبير بعلى المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين.

وأما رابعاً: فلأن فيه تنكير صبراً المفصح عن التفخيم.

وأما خامساً: فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبت...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ونمضي مع القصة، فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين.. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها.. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة. بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء}... هكذا. {ربنا أفرغ علينا صبرا}.. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة. {وثبت أقدامنا.} فهي في يده -سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد. {وانصرنا على القوم الكافرين}.. فقد وضح الموقف.. إيمان تجاه كفر. وحق إزاء باطل. ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

اجتاز المؤمنون الصابرون النهر، وجمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم؛ لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين، تقدموا للقاء الأعداء، ولم يغرهم بالله الغرور، ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لابد من تأييد الله، ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال: {و لما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250} أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوى المناضلة... وكان بروزهم وظهورهم لقوى جبار غالب، ومعه جند مدرب تعود الانتصار في الماضي، وأذاق بني إسرائيل من الذل أكؤسا، ذلك هو جالوت وجنوده... و ذكره بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة، لها فوق كثرة العدو والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم. ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه، بل شهواته ورغباته، فهم لا يعملون لأنفسهم وجماعتهم، بل يعملون لملكهم، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه، وذلك من أسباب ضعف الإرادات، وعدم الصبر عند الشدائد، وهكذا حكم الواحد المستبد، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا، ولم يكن فاسدا غاشما وطغيانا آثما.

[و] عندما التقى المؤمنون الصابرون من بني إسرائيل بعدوهم، هالهم أمره، وهالهم أمر قائده، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا في أمرهم، وشروا أنفسهم لربهم، ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر:

أما الدعاء الأول فهو [قولهم]: [قولهم {ربنا أفرغ علينا صبرا}... [ومعناه]... أفض علينا صبرا يعمنا في ظاهر جمعنا، وفي خاصة نفوسنا. فالتعبير ب "أفرغ علينا صبرا "فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفي الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه، فيلقي في القلوب بردا وسلاما، وهدوءا واطمئنانا. و صدروا الدعاء بالنداء "ربنا "أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا، وضرعوا إلى قادر غالب، وإلى منشئ موجد، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر، ويغنيهم به عن نقص العدد. و ابتدأوا بالدعاء بالصبر، لأن الصبر هو عدة القتال الأولى، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع. والانتصار في القتال بصبر ساعة، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

و الدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم: {وثبت أقدامنا}، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال، فمعنى: {وثبت أقدامنا}، أي ثبتنا، ومكنا من عدونا، ولا تمكن عدونا منا، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا، فالتعبير بقوله: {وثبت أقدامنا}، تعبير بالجزء وإرادة الكل؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام، وأن الثبات مظهر الصبر،و ذريعة النصر بل مظهر القوة، وعنده تتحطم قوى العدو، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربا في سبيل حق، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل...

و الدعاء الثالث، وهو قولهم: {وانصرنا على القوم الكافرين} وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية، والتوفيق الرباني، والتأييد من القوي الجبار، فلن يكون الانتصار، وأن الجيش القوي مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوي الغالب على كل شيء. وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون، مع أن تحت سلطانهم جنودا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا: المستقبل بيد الله، بل قالوا: المستقبل بأيدينا، فكف الله أيديهم عن الناس، وكانوا عبرة المعتبرين...