الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (250)

وقوله تعالى : { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا }[ البقرة :250 ] .

{ بَرَزُواْ } : معناه صَارُوا في البَرَازِ ، وهو الأفْيَحُ ، من الأرض المتَّسِع ، والإِفْرَاغُ : أعظم الصبِّ ، وكان جالوتُ أمير العمالقة ومَلِكَهُم ، ورُوِيَ في قصَّة داود وقَتْله جالوتَ ، أنَّ أصحَابَ طالُوتَ كان فيهم إِخوة دَاوُد ، وهم بنو أيش ، وكان داود صغيراً يرعى غنَماً لأبيه ، فلمَّا حضَرَتِ الحربُ ، قال في نفْسه : لأذهبنَّ لرؤية هذه الحرْب ، فلمَّا نهض مَرَّ في طريقه بحَجَر ، فناداه : يا دَاوُد ، خُذْنِي ، فَبِي تَقْتُلُ جالُوتَ ، ثم ناداه حَجَرٌ آخَرُ ، ثم آخر ، ثم آخَرُ ، فأخَذَها ، وجعَلَها في مِخْلاَتِهِ ، وسار ، فلَمَّا حَضَر البأْسُ ، خَرَجَ جالُوتُ يطلب مُبَارِزاً ، فكَعَّ الناسُ عَنْه ، حتى قال طالوتُ : مَنْ بَرَز له ، ويَقْتُلُه ، فأنا أزوِّجه ابنَتِي ، وأحكِّمه في مالِي ، فجاء داوُدُ ، فقال : أنا أَبْرُزُ له ، وأقتلُه ، فقال له طالوت : فاركب فَرَسِي ، وخُذْ سلاحِي ، ففَعَلَ وخَرَج في أحْسَنِ شِكَّةٍ ، فلمَّا مشى قَليلاً رجَع ، فقال الناسُ : جَبُنَ الفتى ، فقَالَ داوُد : إِنَّ اللَّه سبحانه ، إِنْ لم يَقْتُلْهُ لِي ، ويعينَنِي علَيْه ، لم ينفعْنِي هذا الفَرَسُ ، ولا هذا السِّلاحُ ، ولكنِّي أحبُّ أنْ أقاتِلَهُ على عادَتِي ، قال : وكان داوُدُ من أرْمَى النَّاس بالمِقْلاعِ ، فنَزَلَ ، وأخَذَ مِخْلاَته ، فتقلَّدها ، وأخَذَ مِقْلاَعه ، فخَرَج إِلى جَالُوتَ ، وهو شَاكٍ فِي السِّلاحِ ، فقال له جالوت : أنْتَ ، يا فتى ، تَخْرُجُ إِلَيَّ ؟ قَالَ : نعم ، قال : هكذا ، كما يُخْرَجُ إِلى الكَلْبِ ، قال : نعم ، وأنْتَ أهْوَنُ ، قَالَ : لأُطْعِمَنَّ اليَوْمَ لَحْمَكَ الطيرَ ، والسِّبَاعَ ، ثُمَّ تدَانَيَا ، فأدار دَاوُدُ مِقْلاَعَهُ ، وأدْخَلَ يدَهُ إِلى الحجارةِ ، فرُوِيَ أنَّها التأمت ، فصارَتْ واحداً ، فأَخذه ، ووضَعَه في المِقْلاَع ، وسمَّى اللَّهَ ، وأدارَهُ ورَمَاه ، فأصَابَ به رَأسَ جالُوت ، فقتله ، وحزَّ رأسَهُ ، وجعَلَهُ في مِخْلاَته ، واختلط النَّاسُ ، وحَمَل أصْحَاب طالُوتَ ، وكانَتِ الهزيمةُ ، ثم إِنَّ داوُدَ جاء يَطْلُبُ شرطَهُ من طالُوتَ ، فقال له : إِن بناتِ المُلُوكِ لهُنَّ غرائِبُ من المَهْرِ ، ولا بُدَّ لك من قَتْل مائَتَيْنِ من هؤُلاَء الجَرَاجِمَةِ الذينَ يُؤْذُونَ النَّاس ، وتجيئَنِي بغُلُفهِمْ ، وطمع طالوتُ أنْ يُعَرِّض داوُدَ للقَتْلِ بهذه النَّزْعَة ، فقَتَل داوُدُ منْهم مائَتَيْنِ ، وجاء بذلك ، وطَلَبَ امرأته ، فدَفَعَهَا إِليه طالُوتُ ، وعَظُم أمْرُ داود ، فيروى ، أنَّ طالُوتَ تخلى له عن المُلْك ، وصار هو المَلِكَ ، وقد أكْثَر الناس في قَصَص هذه الآية ، وذلك كلُّه ليِّن الأَسانيد ، فلذلك انتقَيْتُ منه ما تنفكُّ به الآية ، ويعلم به مناقلُ النازلة .

وأما الحكْمَةُ التي آتاه اللَّه فَهِيَ النبوَّة ، والزَّبُور ، وعلَّمه سبحانه صَنْعَة الدُّرُوع ، ومَنْطِقَ الطَّيْر ، وغيْرَ ذلك من أنواع علْمه -صلَّى اللَّه على نبيِّنا وعلَيْه .