اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (250)

قوله تعالى : { بَرَزُواْ لِجَالُوتَ } في هذه اللام وجهان :

أحدهما : أنَّها تتعلَّق ب " برزوا " .

والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل : " بَرَزوا " قال أبو البقاء : " وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي : برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ " . ومعنى برزوا : صاروا إلى بَراز من الأرض ، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى ، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ لصاحبه ، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا إلى عسكر جالوت ، ورأوا قِلَّة جانبهم ، وكثرة عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء ، والتَّضرع ، فقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } . وفي ندائِهِم بقولهم : " رَبَّنَا " : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة ، وطلبٌ لإِصلاحهم ؛ لأَنَّ لفط " الرَّبَّ " يُشْعر بذلك دونَ غيرها ، وأَتوا بلفظِ " عَلَى " في قولهم " أَفْرغ عَلَيْنَا " طلباً ؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم ، وشاملاً لهم كالظرفِ . ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم : ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } إلى قوله { وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران :147 ] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي ، ويستنجز من الله وعده ، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ " وكان يقول : " اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ " {[4129]} .

والإفراغ : الصَّبُّ ، يقال : أفرغت الإِناءَ : إذا صببت ما فيه ، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغٌ معناه : خالٍ ممَّا يشغله ، والإفراغ : إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه .

واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة :

الأول : الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } .

الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت ، ولا يصير ملجأ إلى الفرار .

الثالث : زيادة القوَّة على العدوِّ ؛ حتى يقهره ، وهو المراد من قولهم { وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } .

فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال

احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً . . . } الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار ، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى .

أجاب القاضي{[4130]} : بأنَّ المراد من الصبر ، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر ، وأسباب ثبات القدم : إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف ، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل ، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء ، كالموت ، والوباء ، أو يبتليهم بالموت ، والمرض الذي يعمهم ، أو يموت رئيسهم ، ومن يدبّر أمرهم ، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم .

والجواب عما{[4131]} قاله القاضي من وجهين :

الأول : أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى - ، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره ، وتحملونه على أسباب الصَّبر ، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز .

الثاني : أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي ، أو ليس لها أثرٌ فيه ؟ وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله تعالى فائدة ، وإن كان لها أثرٌ في التَّرجيح ؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان ، وعند حصول الرُّجحان ، يمتنع الطَّرف المرجوح ، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب .


[4129]:- انظر تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (3/256).
[4130]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/158.
[4131]:- ينظر: المصدر السابق.