وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة ، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها ، كما لو كانت معروضة فعلاً ، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه :
إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى ، وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد ، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية ، وبهذه الحركة المرئية ، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص ، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر المؤمنين عن حالهم التي كانوا عليها، فقال: أرأيتهم معشر المؤمنين: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا}، يعنى من دون الوادي على شاطئ مما يلي المدينة، {وهم بالعدوة القصوى} من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعنى مشركي مكة، فقال: {والركب أسفل منكم}، يعنى على ساحل البحر أصحاب العير أربعين راكبا أقبلوا من الشام إلى مكة فيهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل {ولو تواعدتم} أنتم والمشركون، {لاختلفتم في الميعاد ولكن} الله جمع بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، أنتم ومشركو مكة {ليقضى الله أمرا} في علمه، {كان مفعولا} يقول: أمرا لا بد كائنا؛ ليعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله، "إذْ أنْتُمْ "حينئذ "بالعُدْوةِ الدّنْيا" يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، "وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى" يقول: وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة، "وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ" يقول: والعير فيها أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
"وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً"
يعني تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم، لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً، وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر... "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ"
يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً، "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ". وهذه اللام في قوله: "لِيَهْلِكَ" مكررة على اللام في قوله: "لِيَقْضِيَ" كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعَكُمْ.
ويعني بقوله: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها. "وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ" يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمَعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
وقال ابن إسحاق في ذلك...: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" لما رأى من الآيات والعبر، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وأما قوله: "وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ" فإن معناه: وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه، ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً، عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده: واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ، وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) إما للخروج نفسه وإما للميعاد نفسه؛ أتخرجون، أو لا تخرجون؟ أو منكم من يؤخر الخروج عن وقت الميعاد، ومنكم من لا يخرج رأسا ليقضي ذلك.
وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)... لينجز الله ما كان وعد من الظفر والنصر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يخبر -سبحانه- أنَّ ما جرى يَومَ بدرٍ من القتال، وما حَصَلَ من فنون الأحوال كان بحكم التقدير، لا بما يحصل من الخَلْق من التدبير، أو بحكم تقتضيه رَوِيَّةُ التفكير. بل لو كان ذلك على اختيار وتَوَاعُد، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتَبَاعدُ، فجرى على ما جرى ليقضِيَ الله أمراً كان مقضيًّا، وحصل من الأمور ما سَبَقَ به التقدير. قوله جلّ ذكره: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَي عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أي ليُضِلَّ منْ زاغ عن الحقِّ بعد لزومه الحجة، ويهتديَ مَنْ أقام على الحقِّ بعد وضوح الحُجَّة. ويقال الحقُّ أوْضَحَ السبيلَ ونَصَبَ الدليلَ، ولكن سَدَّ بصائرَ قومٍ عن شهود الرشد، وَفَتح بصائرَ آخرين لإدراك طرق الحق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم»؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته... وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر.
{لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم، أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {ليهلك} أي ليكفر {ويحيى} أي ليؤمن. والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان، ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به {عَلِيمٌ} أي: بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من {يوم الفرقان} {إذ أنتم} نزول {بالعدوة الدنيا} أي القربى إلى المدينة {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعدى منها القريبة إلى البحر،... والعدوة -بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها- بأي ترتيب كان -تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو {والركب} أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب على الظرف قوله: {أسفل منكم} أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال- كما قال البغوي، وهو كان قصدكم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه -لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم- جواباً له "أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم "مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب إيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله. {ولو تواعدتم} أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد {لاختلفتم في الميعاد} أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءهم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل -كما يزعم محمد- الله، فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط. فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه {ولكن} أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان -{ليقضي الله} أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعزازكم وإذلالهم {أمراً كان} كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام {مفعولاً} أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: {ليقضي الله} علل تلك العلة بقوله: {ليهلك} أي بعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة {من هلك} أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً {عن} حالة {بينة} لما بان من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات {ويحيى من حيّ} أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشير إليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة {عن} حالة {بينة} أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون
{غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: {وإن الله لسميع} أي لما كنتم تقولونه وغيره {عليم} بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وقوله: {كان مفعولا} أي حقيقا بأن يفعل. وقيل: {كان} بمعنى {صار} أي صار مفعولا، بعد أن لم يكن. وقيل: إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم ويرفع حجة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره، أنه مبطل لقيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه، والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة (بدر) من الآيات الغر المحجلة، التي من كفر بعدها، كان مكابرا لنفسه مغالطا لها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من هلك من الكفار عن حجة بينة مشاهدة بالبصر على حقية الإسلام، بإنجاز وعده تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، بحيث تنفي الشبهة، وتقطع لسان الاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويحيا من حي من المؤمنين عن بينة قطعية حسية كذلك فيزدادوا يقينا بالإيمان، ونشاطا في الأعمال...
{وإن الله لسميع عليم} لا يخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان والكفر ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق من الأقوال الصادرة عن عقيدته، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، عليم بما يخفيه ويكنه من ذلك وغيره، فيجازي كلا بحسب ما يعلم وما يسمع منه.
وجملة القول: إن هذا الفرقان الذي رتبه الله على غزوة بدر قامت به حجة الله البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم صلى الله عليه وسلم، وهي حجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم صلى الله عليه وسلم، إذ لا مجال للمكابرة فيها ولا للتأويل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله -سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والغرض من التقييد بهذا الوقت، وبتلك الحالة: إحضارها في ذكْرهم، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم، ومعنى {أمراً} هنا الشيء العظيم، فتنكيره للتعظيم المعنى: لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.