وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها ؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :
( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . وهؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه - سبحانه - ( فإن الله هو الغني الحميد ) . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض ؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ؛ ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل ! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق !
ثم كرر ما تقدّم للاقتداء بإبراهيم عليه السلام ومن معه فقال :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } لقد كان لكم أيها المؤمنون ، في إبراهيمَ والذين معه قدوةٌ حسنة في معاداتكم لأعداء الله ، وهذه القدوةُ لمن كان يرجو لقاء الله في اليوم الآخر .
{ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد }ومن يعرض عن هذا الاقتداء فقد ظلم نفسه ، والله غنيّ عن إيمانه ، بل عن جميع خلقه ، محمود بأياديه وآلائه .
قرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة . وقرأ عاصم : أسوة بضم الهمزة وهما لغتان
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ } أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الكلام فيه نحو ما تقدم ، وقوله تعالى :
{ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر } أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصاً ، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة لحسنة أو صفة ، وجوز كونه بدلاً من { لَكُمْ } بناءاً على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب وكذا من ضمير المتكلم بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب ، وأن يبدل من الكل بدل البعض . وبدل الاشتمال . وبدل الغلط .
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضاً ، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض . والاشتمال . والغليط .
/ وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء ، وجملة { لَقَدْ كَانَ } الخ قيل : تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه ، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي : إن لم ينظر لقوله تعالى : { إِذْ قَالُواْ } [ الممتحنة : 4 ] فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميماً بعد تخصيص ، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير .
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا الخ ، وفي قوله سبحانه : { لّمَن كَانَ } الخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة .
ثم كرر الحث [ لهم ] على الاقتداء بهم ، فقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة ، وإنما تسهل على من { كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } فإن الإيمان واحتساب الأجر والثواب ، يسهل على العبد كل عسير ، ويقلل لديه كل كثير ، ويوجب له الإكثار من الاقتداء بعباد الله الصالحين ، والأنبياء والمرسلين ، فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية الاضطرار .
{ وَمَنْ يَتَوَلَّ } عن طاعة الله والتأسي برسل الله ، فلن يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئا ، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } الذي له الغنى التام [ المطلق ] من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه [ بوجه ] ، { الْحَمِيدُ } في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فإنه محمود على ذلك كله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.