نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِيهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (6)

ولما أتم ما حثهم على التأسي فيه بذكر أعظم آبائهم لأن دواعي الإنسان إلى المداراة عما يخاف عليه من أقاربه وآله وجميع أحواله{[64534]} عظيمة جداً إن كان المدارأ عظيماً لا سيما إن كان قد تقدم له صداقة وبه ألفة ، فكان جديراً بعد الوعظ والتأسية أن{[64535]} يبقى عنده بقايا ولا سيما والناس متفاوتون ، منهم من يرده أيسر وعظ ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك أعاد التأسية تأكيداً لها على وجه بلغ الذروة من جمال{[64536]} الترغيب وجلال الترهيب ، وليكون فيها أتم دلالة على أن ما بينهما من قول إبراهيم عليه السلام المأمور بالتأسي به من الدعاء وغيره إلا ما استثنى لتشتد الرغبة فيه ، فقال مصدراً بما دل على القسم إشارة إلى أن من فعل غير هذا كان فعله فعل منكر{[64537]} لحسن هذا التأسي ، ولذلك ذكر الفعل الذي أنثه في الأول : { لقد كان لكم } أي أيها الذين ادعوا الإيمان ، وقدم الظرف{[64538]} بياناً للاهتمام به{[64539]} فقال : { فيهم } أي إبراهيم عليه السلام ومن معه { أسوة حسنة } وأبدل من { لكم } ما هو الفيصل في الدلالة على الباطل ، فقال مشيراً إلى أن من لم يتأس بهم في هذا لم يكن راجياً لما ذكر : { لمن كان } أي جبل على أنه { يرجوا الله } أي الملك المحيط بجميع صفات الكمال فهو ذو الجلال الذي يجير ولا يجار عليه ، والإكرام الذي هو جدير بأن يعطى جميع ما يسأله { واليوم الآخر } الذي يحاسب على ، النقير والقطمير ، ولا تخفى عليه خافية ، فمن لم يتأس {[64540]}بهم{[64541]} كان تركه للتأسي دليلاً على سوء عقيدته ، فلا يلومن{[64542]} إلا نفسه ، فقد أذن لإمام المسلمين إن عثر عليه في عقوبته ، فإن علم الغيب الذي أعلمناه{[64543]} نبينا صلى الله عليه وسلم بأن حاطباً رضي الله عنه صحيح العقيدة{[64544]} غير متأهل للعقوبة منقطع بموته صلى الله عليه وسلم ولا يبقى إلى ما نصبناه من الشعائر ، وأقمناه من الدلائل .

ولما كان التقدير : فمن أقبل على هذا التأسي لكونه يرجو الله واليوم الآخر فلم يخلد إلى الدنيا ، يتوله الله فإن الله{[64545]} رحيم ودود ، عطف عليه قوله : { ومن يتول } أي يوقع الإعراض عن أوامر الله تعالى في وقت من الأوقات مطلقاً لكونه أخلد إلى الدنيا{[64546]} ولم ير اليوم الآخرة أعرض الله عنه ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك لا يقع إلا بمعالجة الفطرة الأولى ، وأكد لأن فاعل ذلك كالمنكر لمضمون{[64547]} الكلام فقال : { فإن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة{[64548]} { هو } أي خاصة { الغني } أي عن كل شيء { الحميد * } أي{[64549]} الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال في حال الطاعة له والمعصية فإن العاصي عبد لإرادته ، كما أن المطيع عبد لآمره وإرادته ولطفه ، فلا يخرج شيء عن مراده ، وكل شيء خاضع لحكمه ، وقد بينت الآية أدب العشرة لما ألهبت وهيجت على المفارقة للعصاة والتبرء منهم حساً ومعنى ، وإظهار ذلك لهم قولاً وفعلاً ، إلى أن{[64550]} تحصل التوبة ، ومن لم يفعل ذلك كان شريكاً في الفعل فيكون شريكاً في الجزاء كما ورد ، ثم لا{[64551]} يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على ألسنة الأنبياء ، ومن فعل ما أمره{[64552]} الله به كان فعله جديراً بأن يكون سبب الوصله والقرب والمودة ، فالآية{[64553]} من الاحتباك : ذكر الرجاء أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والتولي ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر سبب السعادة ترغيباً وسبب الشقاوة ترهيباً .


[64534]:- في ظ: إخوانه.
[64535]:- من م، وفي الأصل وظ: بان.
[64536]:- من ظ وم، وفي الأصل: كمال.
[64537]:- من ظ وم، وفي الأصل: المنكر.
[64538]:- من ظ وم، وفي الأصل: اهتماما به وبيانا.
[64539]:- من ظ وم، وفي الأصل: اهتماما به وبيانا.
[64540]:- في ظ وم: لم يانس.
[64541]:- من ظ وم، وفي الأصل: به.
[64542]:- من ظ وم، وفي الأصل: فلا يكون من.
[64543]:- من ظ وم، وفي الأصل: علمناه.
[64544]:- من ظ وم، وفي الأصل: العقوبة.
[64545]:-زيد في الأصل: غفور، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64546]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأرض.
[64547]:- من ظ وم وفي الأصل: لمفهوم.
[64548]:- زيد من م.
[64549]:- زيد من م.
[64550]:- زيد من ظ وم.
[64551]:- زيد من ظ وم.
[64552]:- من ظ وم، وفي الأصل: أمر.
[64553]:- من ظ وم، وفي الأصل: والآية.