تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية . حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم ، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة . .
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم ، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة :
( لا أقسم بهذا البلد . وأنت حل بهذا البلد . ووالد وما ولد . لقد خلقنا الإنسان في كبد ) .
والبلد هو مكة . بيت الله الحرام . أول بيت وضع للناس في الأرض . ليكون مثابة لهم وأمنا . يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم ، ويلتقون فيه مسالمين ، حراما بعضهم على بعض ، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام . ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين .
سورة البلد مكية وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة ق . وأهدافها نفس أهداف السور المكية : من تثبيت العقيدة ، والتركيز على الإيمان بالحساب والجزاء ، والتمييز بين الأبرار والفجّار .
بدأت السورة بالقسم بالبلد الحرام ، موطن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي نشأ فيه ، تعظيما لشأنه ؛ وبوالد وما ولد لأن بهما حفظ النوع وبقاء الإنسانية ، على أن الإنسان خُلق في مشقة ومكابدة متاعب . ثم بينت أن هذا المخلوق مغترّ بنفسه ، ينفق الأموال إرضاء لشهواته وأهوائه . وعددت النعم الكثيرة التي أنعم الله بها على الإنسان ، وأن عتق الرقيق ، وإطعام المحتاجين من الفقراء والأيتام والمساكين هو أهم سبيل يرضي الله ويوصل إلى الجنة . ثم خُتمت السورة بذكر الفرق بين المؤمنين والكفار ومآل كل منهم .
أقسم قسماً مؤكدا بمكة ، التي شرّفها الله فجعلَها حَرماً آمنا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مكية في قول جمهور المفسرين ، وقال قوم : هي مدنية .
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
مكية في قول الجمهور بتمامها، وقيل مدنية بتمامها، وقيل مدنية إلا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى "بهذا البلد"، قيل ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الأجماع على مكيتها، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية . حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم ، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة . . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في ترجمتها عن صحيح البخاري سورة لا أقسم وسميت في المصاحف وكتب التفسير سورة البلد . وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة .
وهي مكية، وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه، واقتصر عليه معظم المفسرين، وحكى ابن عطية عن قوم : أنها مدنية، ولعل هذا قول من فسر قوله { وأنت حل بهذا البلد } أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح، وحمل { وأنت حل } على معنى : وأنت الآن حل ، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح، وعزي لابن عباس . وقد أشار في الكشاف إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق ، وفي رده بذلك مصادرة ، فالوجه أن يورد بأن في قوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } إلى قوله { فلا اقتحم العقبة } ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: { لقد خلقنا الإنسان في كبد } وإلا لخلت الضمائر عن معاد . وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها ...
حوت من الأغراض التنويه بمكة . وبمقام النبي صلى الله عليه وسلم بها . وبركته فيها وعلى أهلها .
والتنويه بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي .
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك . وإنكارهم البعث . وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه ، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس ، ونعمة النطق ، ونعمة الفكر ، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه .
ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تنديد بالذين يقفون موقف المشاقة والمشاكسة ، ويتباهون بأموالهم غير حاسبين حساب العاقبة ، وتقرير لقابلية الإنسان للاختيار بين الخير والشر وحث على الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة والمكرمات الأخرى ، وفي مقدمتها عتق الرقيق ، وأسلوبها عام إجمالا . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تطل على أجواء القسم بمكة التي عاش فيها النبي( صلى الله عليه وسلم ) ، وبوالدٍ وما ولد ، وتؤكد على أنّ الإنسان خلق في مكابدة ومشقةٍ وجهدٍ وتعب ، وأريد له أن يستمر في كدحه ليحقق لنفسه الدور الحيويّ الذي أعده الله له في بناء الحياة على أساس الرسالات ، فعليه أن يدرس دوره وقدرته ولا يطغى في نفسه ليتصوّر نفسه بالقدرة التي لا يقدر عليه فيها أحد ، وعليه أن لا يبتعد عن القيام بمسؤوليته في البذل ليحتج بأنه لا يملك شيئاً فيقول : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } ، فيكفيني ما أنفقت ، فلا أستطيع أن أنفق أكثر ، ولكنّ عين الله تراه وتعرف موارد إنفاقه ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
محتوى السّورة: هذه السّورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى :
في بداية هذه السّورة ، بعد قسم ذي محتوى عميق ، تُقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب ؛ وبذلك تُعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات ، ومن جهة اُخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم ، فالراحة المطلقة والنعيم المطلق في الحياة الآخرة لا غيرها .
في مقطع آخر من هذه السّورة ، إشارة إلى أهم النعم الإلهية ، ثمّ ذكر جحود الإنسان بهذه النعم .
وفي آخر هذه السّورة تقسيم النّاس إلى : «أصحاب الميمنة » و«أصحاب المشئمة » ، ثمّ يأتي ذكر جانب من أعمال المجموعة الأولى وصفاتها ( المجموعة المؤمنة الصالحة ) وما ينتظرها من جزاء ، ثمّ المجموعة الثّانية ، ( وهي الكافرة المجرمة ) وما تواجهه من مصير . عبارات السّورة قاطعة قارعة ، والجمل قصيرة ذات إيقاع قوي ، والألفاظ واضحة مؤثرة معبّرة ، وشكل آياتها تدلّ على أنّها مكّية . فضيلة السّورة : روي عن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : «من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم القيامة » . ...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله : { لا أقسم بهذا البلد } يعني مكة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أقسِم يا محمد بهذا البلد الحرام ، وهو مكة ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى : { بهذا البلد } قالوا : أريد بهذا البلد مكة ، فأقسم بها بما عظم شأنها بما سبق ذكرنا له وبخاصة هي معظمة في أعين أهلها ؛ ثم كان من عادة الكفرة القسم بكل ما يعظمونه ، فعاملهم الله تعالى من الوجه الذي جرت العادة في ما بينهم ليؤكد ما قصد إليه بالقسم ...
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة ، واعلم أن فضل مكة معروف ، فإن الله تعالى جعلها حرما آمنا ، فقال في المسجد الذي فيها { ومن دخله كان آمنا } وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب ، فقال : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وشرف مقام إبراهيم بقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال : { ولله على الناس حج البيت } وقال في البيت : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا } وقال : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا } وقال : { وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } وحرم فيه الصيد ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الدنيا من تحته ، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لا أقسم } أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده ، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره ، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة ، فيكون كقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم }[ الواقعة : 86 ] { بهذا البلد } أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس ، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً ، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد ، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد ، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق . ... وتقدم القول في : هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به . ... والإِشارة ب« هذا » مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة ، ومثله ما في قوله : { إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] . وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به . ... والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة . . . بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل . . بالقسم المرتبط ارتباطاً خاصّاً بالموضوع المطروح . وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم : قسماً بهذه المدينة المقدسة مكّة : ( لا اُقسم بهذا البلد ) لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان ، هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام . ...
يجوز أن تكون " لا " زائدة ، كما تقدم في " لا أقسم بيوم القيامة " {[16066]} [ القيامة : 1 ] . قاله الأخفش . أي أقسم لأنه قال : " بهذا البلد " وقد أقسم به في قوله : " وهذا البلد الأمين " [ التين : 3 ] فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به . قال الشاعر :
تذكَّرْتُ ليلَى فاعْتَرَتْنِي صَبَابَة *** وكاد صميمُ القلبِ لا يَتَقَطَّعُ
أي يتقطع ، ودخل حرف " لا " صلة ، ومنه قوله تعالى : " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك{[16067]} " [ الأعراف : 12 ] بدليل قوله تعالى في " ص ] : " ما منعك أن تسجد{[16068]} " . [ ص : 75 ] . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير " لأقسم " من غير ألف بعد اللام إثباتا . وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى " ألا " . وقيل : ليست بنفي القسم ، وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا ، ولا والله ما كان كذا ، ولا والله لأفعلن كذا . وقيل : هي نفي صحيح . والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه ، بعد خروجك منه . حكاه مكي . ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " لا " رد عليهم . وهذا اختيار ابن العربي ؛ لأنه قال : وأما من قال إنها رد ، فهو قول ليس له رد ؛ لأنه يصح به المعنى ، ويتمكن اللفظ والمراد . فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم . وقال القشيري : قوله " لا " رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة ، المغرور بالدنيا . أي ليس الأمر كما يحسبه ، من أنه لن يقدر عليه أحد ، ثم ابتدأ القسم . و " البلد " : هي مكة ، أجمعوا عليه . أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه ، لكرامتك علي وحبي لك . وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا ، وبركتك ميتا ، يعني المدينة . والأول أصح ؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق .
لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق ، لا سيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان ، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم ، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء ، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة ، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك : { لا أقسم } أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده ، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره ، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة ، فيكون كقوله
{ فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم }[ الواقعة : 86 ] { بهذا البلد * } أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس ، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً ، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد ، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد ، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد ، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين ، فإن المراد هناك الكمالات .