وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما ، تختلف أسماؤها وأشكالها ، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية ؛ وتجمع حواليها الأتباع ، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام ، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء ، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد : ( وقد أضلوا كثيرا )ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام . . أصنام الأحجار . وأصنام الأشخاص . وأصنام الأفكار . . سواء ! ! للصد عن دعوة الله ، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة ، بالمكر الكبار ، والكيد والإصرار !
هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح - عليه السلام - ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين ، الماكرين الكائدين :
( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا ، وعانى كثيرا ، وانتهى - بعد كل وسيلة - إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية ؛ وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة .
{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } أي : وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق ، { وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } أي : لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق ، لكان مصلحة ، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا أي : فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم ، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية ، فقال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا }
{ وقد أضلوا كثيراً } أي : ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله عز وجل : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس }( إبراهيم- 36 ) ، وقال مقاتل : أضل كبراؤهم كثيراً من الناس ، { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } هذا دعاء عليهم بعدما أعلم الله نوحاً أنهم لا يؤمنون ، وهو قوله : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }( هود- 36 ) .
" وقد أضلوا كثيرا " هذا من قول نوح ، أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم ، فهو عطف على قوله : " ومكروا مكرا كبارا " . وقيل : إن الأصنام " أضلوا كثيرا " أي ضل بسببها كثير ، نظيره قول إبراهيم : " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس{[15402]} " [ إبراهيم : 36 ] فأجرى عليهم وصف ما يعقل ؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك . " ولا تزد الظالمين إلا ضلالا " أي عذابا ، قاله ابن بحر . واستشهد بقوله تعالى : " إن المجرمين في ضلال وسعر{[15403]} " [ القمر : 47 ] . وقيل إلا خسرانا . وقيل إلا فتنة بالمال والولد . وهو محتمل .
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم ، عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال{[68817]} : { وقد أضلوا } أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة { كثيراً } من عبادك{[68818]} الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة{[68819]} .
ولما كان التقدير : فلا تزد الظالمين إلا خساراً ، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً{[68820]} وتعليقاً {[68821]}للحكم بالوصف{[68822]} : { ولا تزد الظالمين } أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في الظلام في{[68823]} وقوعها مختلة ، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم { إلا ضلالاً * } أي طبعاً على{[68824]} عقولهم و{[68825]}قلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم{[68826]} الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال{[68827]} فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء{[68828]} من سداد ، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما{[68829]} وعلى محمد أفضل الصلاة و{[68830]}السلام في الشد على قلوب{[68831]} فرعون وملائه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام ، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصه : إن هذا الدعاء حسن في حقهم ، وقال : إن الضلال أهدى من الهدى ، وإن الضال أحسن حالاً من المهتدي ، لأن الضال لا يزال قريباً من القطب المقصود دائراً حوله ، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة ، فهو يبعد عن المقصود ، فأبان أن الله تعالى{[68832]} لم يخلق خلقاً أسفه منه إلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره ، فعليهم أشد الخزي واللعنة .
قوله ، { وقد أضلّوا كثيرا } الضمير للرؤساء . يعني أضل الرؤساء والكبراء بهذه الأصنام خلقا كثيرا من الناس ففتنوهم عن توحيد الله إلى الاغترار بالأصنام التي لا تضر ولا تنفع . أو يعود الضمير على الأصنام فقد ضل بسببها كثير من الناس ، إذ اغتروا بها اغترارا فزاغوا عن التوحيد إلى الشرك والباطل .
قوله : { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } ذلك من دعاء نوح على قومه بالهلاك كقوله : { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } أي هلاكا{[4646]} .