في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون

قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة . . الألوهية الواحدة . والحياة الآخرة . والوحي بالرسالة . يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية .

وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق ، واستدلال عليها . وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وتحذير من التكذيب بها ، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة ، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة . وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ؛ بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة . . . كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون .

فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . و : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين ) . . ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها : ألا تعبدوا إلا الله . . وفي وسطها يرد : ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ) . . وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها : ( ويوم يناديهم أين شركائي ? قالوا : آذناك ما منا من شهيد ) . .

وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) . . وتختم بقوله : ( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ، ألا إنه بكل شيء محيط ) . . كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعاً . بل إن هذا الطريق أشد توكيداً لهذه القضية وتشخيصاً .

وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي . فهي تفتتح به في تفصيل : ( حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون . قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . . ) . . . وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآن : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . . ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيه : ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك : إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ? أأعجمي وعربي ? قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى . أولئك ينادون من مكان بعيد . . . ) . .

وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قوله : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة . ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) . .

هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة . تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام . وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين . وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين . وأخيراً تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق ؛ وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد .

ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . . ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ؛ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ) . . أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة ، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار : ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ، ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن : هذا لي ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) . .

ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود : فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ، وقالوا : من أشد منا قوة ? أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .

ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة : يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون . . ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين : ( وقال الذين كفروا : ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس ، نجعلهما تحت أقدامنا ، ليكونا من الأسفلين ! ) . .

وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة . ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة ، ويصور طابعها ، ويرسم ظلالها . . والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق . .

ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين ، متماسكي الحلقات . .

الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه . وتليها قصة خلق السماء والأرض . فقصة عاد وثمود . فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود . ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال ، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس . يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . ومن آثار هذا قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس ! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا . وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة . ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية . . وبذلك ينتهي هذا الشوط .

ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات . ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه ، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب . ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه . ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب . وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها . وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات ، وما تكنه الأرحام من أنسال . ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء . يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها . ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب .

وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .

وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير . .

والآن نبدأ في التفصيل . . .

( حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب . فاعمل إننا عاملون . قل إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إليّ أنماَ إلهكم إله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه ؛ وويل للمشركين ، الذين لا يؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم كافرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) . .

سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى . وتكرار هذا الافتتاح : ا . ميم . . يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري ، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه ؛ فهو ينسى إذا طال عليه الأمد ؛ وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه . والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات ، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون ، نزلت بعد سورة غافر ، وتسمى السجدة . وأول ما بدئت به السورة هو التنويه بالقرآن الكريم ، وأنه كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا ، وبذلك سميت " سورة فصلت " . وهي كباقي السور المكية تعالج قضية العقيدة بحقائقها الأساسية ، الألوهية الواحدة ، والحياة الآخرة ، والوحي والرسالة . وكل ما في السورة شرح لهذه الحقائق واستدلال عليها . كذلك بيّنت موقف المشركين من القرآن ، والإعراضَ عنه ، ومحاربة دعوته ، وموقف الرسول الكريم منهم من الثبات على دعوته ، وبيان وحدة الألوهية : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد . . . } ، ويكثر الكلام عن الوحي والقرآن والجدل فيه .

وتذكّر السورة المشركين بقدرة الله في خلق السموات والأرض ، ثم تخوّفهم مما وقع لأقرب الأمم إلى ديارهم عاد وثمود ، وتذكّرهم بالآخرة ، يومَ يشهد عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ، وما يكون بينهم وبين أعضائهم من المجادلة يومئذ .

وكما تحدثت السورة عن الكافرين وعنادهم تحدثت عن المؤمنين { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا . . . } كيف تتنزل عليهم الملائكة يبشّرونهم بالجنة وما أعدّ الله لهم فيها ، ضيافة من الله الغفور الرحيم . ثم تبيّن أخلاق المسلمين ، وتعطينا درسا رفيعا في الأخلاق والسيرة الحسنة ، وكيف ندعو إلى الله : { ومن أحسنُ قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادْفغ بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم } .

ما أحلى هذا الكلام العظيم ، وما أرقى هذه الأخلاق لو تمشّينا على هداها !

{ وما يُلقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم } . اللهم اجعلنا منهم وحسّن أخلاقنا يا رب العالمين .

وتنتقل السورة فتوجه الأنظار إلى آيات الله وقدرته في هذا الكون الفسيح من أمر البعث وإحياء الموتى ، وتشدِّد النكير على المحرّفين لآيات الله ، وأن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ثم تبين خُلُقا من أخلاق الإنسان : فهو إذا أنعم الله عليه أعرضَ عن الحق ، وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض .

ثم تُختم السور بتقرير أمرين هما من أهم ما اشتملت عليه من الأغراض ، أولهما : التنويه بالقرآن الكريم كما بدئت السورة به ، وثانيهما : أن ما عليه الكافرون ما هو إلا شك في البعث حملهم على الكفر والضلال { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ، ألا إنه بكل شيء محيط } .

وهكذا تعرض حقائق العقيدة بتفصيل في هذه السورة الكريمة في هذا الحشد من المؤثرات العميقة ، فنجد أننا في مطلع السورة إلى ختامها نقف أمام مؤثرات تجول بنا في ملكوت السموات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، يتأثر بها المؤمنون ، وينأى عنها المبطلون ، { وما ربُّك بظلاّم للعبيد } .

حاميم : حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة ، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن .

     
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع ، وهي أربع وخمسون ، وقيل : ثلاث وخمسون آية .

قوله تعالى : " حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم " قال الزجاج : " تنزيل " رفع بالابتداء وخبره " كتاب فصلت آياته " وهذا قول البصريين . وقال الفراء : يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا . ويجوز أن يقال : " كتاب " بدل من قوله : " تنزيل " . وقيل : نعت لقوله : " تنزيل " . وقيل : " حم " أي هذه " حم " كما تقول باب كذا ، أي هو باب كذا ف " حم " خبر ابتداء مضمر أي هو " حم " ، وقوله : " تنزيل " مبتدأ آخر ، وقوله : " كتاب " خبره . " فصلت آياته " أي بينت وفسرت . قال قتادة : ببيان حلاله من حرامه ، وطاعته من معصيته . الحسن : بالوعد والوعيد . سفيان : بالثواب والعقاب . وقرئ " فصلت " أي فرقت بين الحق والباطل ، أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قولك فصل أي تباعد من البلد . " قرآنا عربيا " في نصبه وجوه ، قال الأخفش : هو نصب على المدح . وقيل : على إضمار فعل ، أي اذكر " قرآنا عربيا " . وقيل : على إعادة الفعل ، أي فصلنا " قرآنا عربيا " . وقيل : على الحال أي " فصلت آياته " في حال كونه " قرآنا عربيا " . وقيل : لما شغل " فصلت " بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل انتصب " قرآنا " لوقوع البيان عليه . وقيل : على القطع . " لقوم يعلمون " قال الضحاك : أي إن القرآن منزل من عند الله . وقال مجاهد : أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل . وقيل : يعلمون العربية فيعجزون عن مثله ولو كان غير عربي لما علموه .

قلت : هذا أصح ، والسورة نزلت تقريعا وتوبيخا لقريش في إعجاز القرآن .

" بشيرا ونذيرا " حالان من الآيات والعامل فيه " فصلت " . وقيل : هما نعتان للقرآن " بشيرا " لأولياء الله " نذيرا " لأعدائه . وقرئ " بشير ونذير " صفة للكتاب . أو خبر مبتدأ محذوف " فأعرض أكثرهم " يعني أهل مكة " فهم لا يسمعون " سماعا ينتفعون به . وروي أن الريان بن حرملة قال : قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم آتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر ، وعلمت من ذلك علما لا يخفى علي إن كان كذلك . فقالوا : إيته فحدثه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا محمد أنت خير أم قصي بن كلاب ؟ أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ، وتسفه أحلامنا ، وتذم ديننا ؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك . والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ قال : ( قد فرغت يا أبا الوليد ) ؟ قال : نعم . [ قال فاسمع مني ]{[13410]} قال : ( يا ابن أخي اسمع ) قال : " بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " إلى قوله : " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت : 13 ] فوثب عتبة ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم ، وناشده الله والرحم ليسكتن ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فجاءه أبو جهل فقال : أصبوت إلى محمد ؟ أم أعجبك طعامه ؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالا ، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله : " مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت : 13 ] وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فوالله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب ، يعني الصاعقة . وقد روى هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له عن محمد بن كعب القرظي ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " حم . فصلت " حتى انتهى إلى السجدة فسجد وعتبة مصغ يستمع ، قد اعتمد على يديه من وراء ظهره . فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة قال له : ( يا أبا الوليد قد سمعت الذي قرأت عليك فأنت وذاك ) فانصرف عتبة إلى قريش في ناديها فقالوا : والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم . ثم قالوا : ما وراءك أبا الوليد ؟ قال : والله لقد سمعت كلاما من محمد ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي ، خلوا محمدا وشأنه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ ، فان أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم ، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به ؛ لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم . فقالوا : هيهات سحرك محمد يا أبا الوليد . وقال : هذا رأيي لكم فاصنعوا ما شئتم .


[13410]:الزيادة من سيرة ابن هشام.
   
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية ، وعدد آياتها أربع وخمسون . وهي سورة عظيمة تمتاز بكثرة ما حوته من صور الوعيد والتهديد والتخويف والتنذير ؛ فهي ما يتدبرها القارئ ويتملاها حتى تأخذه غمرة من الرهبة والادِّكار والوجل ، من شدة ما حوته مع بليغ الآيات والعظات والأخبار ، وصور التنبيه والتذكير التي تستديم في الذهن والخيال دوام الترقب والخشوع والحذر .

ويشير إلى هذه الحقيقة أبلغ إشارة قصة ذلك العربي القرشي اللسِنِ عتبة بن ربيعة ، وهو من أفذاذ البلاغة والبيان ؛ فإنه لدى سماع بضع آيات من مطلع هذه السورة ، غشيه من الذهول والفزع ما غشيه حتى مكث ساكتا مضطربا يتلعثم ، مع أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاحدا ومنددا ومحذرا . ثم تولى مدبرا مذعورا من هول ما سمع .

وفي السورة ، يقص الله عن نبأ قوم عاد ، إذ أعرضوا وجحدوا فأخذهم الله بريح قاصف عاصف مدمِّر . وكذلك قوم ثمود الذين ظلموا وطغوا وعقروا ناقة الله فأخذتهم الصيحة والرجفة حتى زلزلوا وهلكوا .

وفي السور إخبار عن شهادة جلود الظالمين الخاسرين ، إذ تشهد عليهم بما فعلوه من المعاصي والسيئات ، إذ أنطقها الله الذي أنطق كل شيء .

ويبينُ اللهُ لنا في السورة تمالؤ المشركين على كتابه الحكيم باللغو فيه إذا سمعوه يُتلى كيلا يفهموه ولا يتدبروه . إلى غير ذلك من ألوان التبشير والتنذير والتحذير والوعيد والترشيد مما حوته هذه السورة الحافلة العجيبة .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .

تتضمن هذه الآيات وما بعدها تقريعا وتوبيخا وتهديدا للمشركين الذين أعرضوا عن عقيدة التوحيد وأدبروا عن سماع القرآن وما فيه من العظات والحجج والشواهد والمعاني . مع أنه كتاب نزل ميسورا مفصلا بلغتهم ، يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر والظلم والباطل ويبشرهم بخير الدنيا والآخرة { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } .

وقد روي عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أن عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ . وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، وإنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرَّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ؛ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندهم غير هذا ؟ وفي رواية عن جابر بن عبد الله ؛ إذا ذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .

وأورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدِّثتُ أن عتبة بن ربيعة – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم على محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفَّ عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة ( رضي الله عنه ) ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون – فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمهُ . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده على نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم ، قال " فاستمع مني " قال : أفعل ، قال : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه ، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ؛ فو الله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزَّهُ عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم{[4040]} .


[4040]:تفسير ابن كثير ج 4 ص 90-91