هذه السورة مكية ، وعدد آياتها أربع وخمسون . وهي سورة عظيمة تمتاز بكثرة ما حوته من صور الوعيد والتهديد والتخويف والتنذير ؛ فهي ما يتدبرها القارئ ويتملاها حتى تأخذه غمرة من الرهبة والادِّكار والوجل ، من شدة ما حوته مع بليغ الآيات والعظات والأخبار ، وصور التنبيه والتذكير التي تستديم في الذهن والخيال دوام الترقب والخشوع والحذر .
ويشير إلى هذه الحقيقة أبلغ إشارة قصة ذلك العربي القرشي اللسِنِ عتبة بن ربيعة ، وهو من أفذاذ البلاغة والبيان ؛ فإنه لدى سماع بضع آيات من مطلع هذه السورة ، غشيه من الذهول والفزع ما غشيه حتى مكث ساكتا مضطربا يتلعثم ، مع أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاحدا ومنددا ومحذرا . ثم تولى مدبرا مذعورا من هول ما سمع .
وفي السورة ، يقص الله عن نبأ قوم عاد ، إذ أعرضوا وجحدوا فأخذهم الله بريح قاصف عاصف مدمِّر . وكذلك قوم ثمود الذين ظلموا وطغوا وعقروا ناقة الله فأخذتهم الصيحة والرجفة حتى زلزلوا وهلكوا .
وفي السور إخبار عن شهادة جلود الظالمين الخاسرين ، إذ تشهد عليهم بما فعلوه من المعاصي والسيئات ، إذ أنطقها الله الذي أنطق كل شيء .
ويبينُ اللهُ لنا في السورة تمالؤ المشركين على كتابه الحكيم باللغو فيه إذا سمعوه يُتلى كيلا يفهموه ولا يتدبروه . إلى غير ذلك من ألوان التبشير والتنذير والتحذير والوعيد والترشيد مما حوته هذه السورة الحافلة العجيبة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
تتضمن هذه الآيات وما بعدها تقريعا وتوبيخا وتهديدا للمشركين الذين أعرضوا عن عقيدة التوحيد وأدبروا عن سماع القرآن وما فيه من العظات والحجج والشواهد والمعاني . مع أنه كتاب نزل ميسورا مفصلا بلغتهم ، يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر والظلم والباطل ويبشرهم بخير الدنيا والآخرة { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } .
وقد روي عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أن عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ . وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، وإنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرَّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ؛ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندهم غير هذا ؟ وفي رواية عن جابر بن عبد الله ؛ إذا ذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .
وأورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدِّثتُ أن عتبة بن ربيعة – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم على محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفَّ عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة ( رضي الله عنه ) ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون – فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمهُ . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده على نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم ، قال " فاستمع مني " قال : أفعل ، قال : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه ، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ؛ فو الله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزَّهُ عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم{[4040]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.