الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فصلت

آياتها 45 ترتيبها 41

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت { حم } السجدة بمكة .

وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير رضي الله عنه ، مثله .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : اجتمع قريش يوماً فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر ، والكهانة ، والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا : أنت يا أبا الوليد . فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله . أنت خير أم عبد المطلب . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع لك ، أما والله ما رأينا سلحة قط اشأم على قومه منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب . حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً ، وأن في قريش كاهناً ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف .

يا أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً ، وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوّجك عشراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون } حتى بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود } فقال عتبة : حسبك . . ! ما عندك غير هذا ؟ قال : لا . فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته قالوا : فهل أجابك ؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال ، غير أنه قال { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } قالوا : ويلك . . ! يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال ؟ قال : لا . والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة » .

وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال : « حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان أشد قريش حلماً . قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد ؛ يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه ، فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل منها بعضه ، ويكف عنا ؟ قالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة ، وفيما عرض عليه من المال ، والملك ، وغير ذلك . حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم . قال : " فاستمع مني قال افعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون } فلما سمعها عتبة انصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة ، فسجد فيها ثم قال : سمعت يا أبا الوليد ؟ قال : سمعت قال : أنت وذاك . فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : والله إني قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة . والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبا " .

وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة { حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم } أتى أصحابه فقال : يا قوم أطيعوني في هذا اليوم ، واعصوني بعده ، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت مثله قط ، وما دريت ما أرد عليه .

وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة ، فجعل يدعو الناس ، فجاء سعد بن معاذ فتوعده فقال له : أسعد بن زرارة اسمع من قوله ؟ فإن سمعت منكراً فأردده يا هذا ، وإن سمعت حقاً فأجب إليه . فقال : ماذا تقول ؟ فقرأ مصعب { حم ، والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لقوم يعقلون } قال : سعد بن معاذ رضي الله عنه : ما أسمع إلا ما أعرف ، فرجع وقد هداه الله .

وأخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : «قال أبو جهل والملأ من قريش : قد انتشر علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فلو التمستم رجلاً عالماً بالسحر ، والكهانة ، والشعر . فقال عتبة : علمت من ذلك علماً ، وما يخفى علي إن كان كذلك ، فأتاه فلما أتاه قال له : يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب . فلم يجبه قال : فيم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشرة نسوة تختار من أي بنات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم - فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بسم الله الرحمن الرحيم ، { حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً } فقرأ حتى بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم أن يكف عنه ، لم يخرج إلى أهله ، واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه . فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره ، فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد . فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً وقال : لقد علمتم أني أكثر قريش مالاً ولكني أتيته . فقص عليهم القصة ، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ، ولا شعر ، ولا كهانة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، { حم تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً } حتى بلغ { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود } فأمسكت بغيه وناشدته الرحم فكيف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب " .

وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن قريشاً اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، فقال لهم عتبة بن ربيعة : دعوني حتى أقوم إلى محمد أكلمه ، فإني عسى أن أكون أرفق به منكم . فقام عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي إنك أوسطنا بيتاً ، وأفضلنا مكاناً ، وقد أدخلت في قومك ما لم يدخل رجل على قومه قبلك ، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالاً فذلك لك على قومك أن نجمع لك حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً فنحن مشرفوك حتى لا يكون أحد من قومك فوقك ولا نقطع الأمور دونك ، وإن كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر على النزوع عنه بذلنا لك خزائننا في طلب الطب لذلك منه ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { حم } السجدة حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءتها ، وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به . حتى أتى نادي قوله ، فلما رأوه مقبلاً قالوا : لقد رجع إليكم بوجه ما قام به من عندكم ، فجلس إليهم فقال : يا معشر قريش قد كلمته بالذي أمرتموني به . حتى إذا فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط ، فما دريت ما أقول له ! يا معشر قريش أطيعوني اليوم ، واعصوني فيما بعده . اتركوا الرجل واعتزلوه ، فوالله ما هو بتارك ما هو عليه ، وخلوا بينه وبين سائر العرب ، فإن يكن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم ، وعزه عزكم ، وملكه ملككم ، وان يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم . قالوا : أصبأت إليه يا أبا الوليد ؟ " .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال : « جئت أزور عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ، ثم سرى عنه فقال : يا عائشة ناوليني ردائي ، فناولته ، ثم أتى المسجد فإذا مذكر يذكر ، فجلس حتى إذا قضى المذكر تذكره إفتتح { حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم } [ السجدة : 1 ] فسجد حتى طالت سجدته ، ثم تسامع به من كان على ميلين ، وتلا عليه السجدة فأرسلت عائشة رضي الله عنها في خاصتها أن أحضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد رأيت ما لم أره منذ كنت معه ، فرفع رأسه فقال : سجدت هذه السجدة شكراً لربي فيما أبلاني في أمتي فقال له أبو بكر رضي الله عنه : وماذا أبلاك في أمتك ؟ قال : أعطاني سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب . فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إن أمتك كثير طيب فازدد قال : قد فعلت فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفاً ، سبعين ألفاً فقال : يا رسول الله ازدد لأمتك فقال بيده ، ثم قال بها على صدره فقال عمر رضي الله عنه : وعيت يا رسول الله » .

وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن الخليل بن مرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك ، وحم السجدة .