ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار . ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم :
يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل . وسخر الشمس والقمر ، كل يجري لأجل مسمى . .
وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين . مشهد دخول الليل في النهار ، والضياء يغيب قليلاً قليلاً ، والظلام يدخل قليلاً قليلاً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب . ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ، وينتشر الضياء رويداً رويداً ، ويتلاشى الظلام رويداً رويداً ، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء . . كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه . وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه . . وقد يعنيهما معاً بتعبير واحد . وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون ، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط ، وتطوي ذاك الخط ، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط . وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب . ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون . .
وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما ، والذي لا يعلمه إلا خالقهما . . هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان ، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها : أم لا يعلم من هذا كله شيئاً . . فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر . وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء . وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة . وليس هذا هو المهم . إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم . . والحياة حياة القلوب . .
وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ، وبطلان كل ادعاء بالشرك ، وخسران عاقبته يوم القيامة :
( ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم . ولو سمعوا ما استجابوا لكم . ويوم القيامة يكفرون بشرككم . ولا ينبئك مثل خبير ) . .
ذلكم . الذي أرسل الرياح بالسحاب ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، والذي خلقكم من تراب ، والذي جعلكم أزواجاً ، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ، والذي خلق البحرين ، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . ذلكم هو ( الله ربكم ) . .
( له الملك ) . . ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) . . والقطمير غلاف النواة ! وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله !
قوله تعالى : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " تقدم في " آل عمران " {[13127]} . " وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى " تقدم في " لقمان " {[13128]} بيانه . " ذلكم الله ربكم له الملك " أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر ، والقادر المقتدر ، فهو الذي يعبد . " والذين تدعون من دونه " يعني الأصنام . " ما يملكون من قطمير " أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه . والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة . قاله أكثر المفسرين . وقال ابن عباس : هو شق النواة ، وهو اختيار المبرد ، وقاله قتادة . وعن قتادة أيضا : القطمير القمع الذي على رأس النواة . الجوهري : ويقال : هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة ، تنبت منها النخلة .
قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 ) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } .
هذا دليل آخر يسوقه الله – عز وعلا – مبينا فيه عظيم سلطانه وبالغ اقتداره ؛ فإنه سبحانه { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي يدخل الليل في النهار ، وذلك بما ينقصه من الليل فيدخله في النهار ، وهو كذلك يولج النهار في الليل ، فما ينقصه الله من أجزاء النهار يدخله في الليل فيزيد في أجزائه . وهو انتقاص أحدهما من الآخر ، وذلك بزيادة هذا في نقصان هذا . ونقصان هذا في زيادة هذا .
قول : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } وهذان جُرمان عظيمان سخرهما الله لعباده لما فيهما من جزيل المنافع ؛ فالشمس جرم كوني هائل متوقِّد أو هو كتلة هائلة من النار المتأجّجة الملتهبة يعدل حجمها مليونا وثلثا من المليون من أضعاف حجم الأرض . وهي بذلك تفيض على الدنيا بالدفء والحرارة والنور والضياء وكل أسباب البقاء والعيش على وجه هذه الأرض . وكذلك القمر ؛ فإنه كوكب دائر سيّار حول الأرض ، وقد جعله الله في مكانه المعتدل الموزون لتستوي الحياة على الأرض فتظل منسجمة معتدلة . وأيما اختلال في حجم القمر أو في مسافته وبُعْده عن الأرض سوف يفْضي لا محالة إلى اختلال مذهل واضطراب عظيم في وضع الأرض برمتها . ويضاف لذلك ما أودعه الله في القمر من بهجة السطوع الباهر الذي يملأ جوانب الأرض إشراقا وضياء . ويثير في نفوس العباد إحساسا غامرا بروعة الإيناس وجمال السكون المشعشع . لا جرم أن الشمس والقمر آيتان كبريان من آيات الله في الكون الواسع . آيتان تَشْدَهانِ الحس تديران الرأس وتَبعثان على اليقين بعظمة الخالق البديع المقتدر .
قوله : { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } كلاهما يجري إلى وقت معلوم وهو يوم القيامة . وحينئذ تتوقف عجلة الحياة عن الحَراك والدوران ، ويأخذ الزمان في لفظ أنفاسه الأخيرة . وذلك إيذان بفناء الحياة وفناء الزمان .
قوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } هذا هو الله الخالق المقتدر الذي صنع كل ذلك وهو بديع السماوات الكائنات ، وما حوته الأرض من كنوز ومذخورات ، بيده مقاليد كل شيء ، فهو وحده المعبود دون سواه من الشركاء والأنداد .
قوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } القطمير : القشرة الرقيقة التي على النواة ، كاللفافة لها{[3855]} يعني ما تعبدونه – أيها المشركون – من الآلهة المصطنعة كالأصنام والأوثان {[3856]} لا يقدرون على شيء ولا يملكون مثقال قشرة أو لفافة تحيط بالنواة وهي في غاية البساطة والامتهان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.