ذلك كان . . ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما ) . .
فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة ؛ وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه ، ويهتدي بنفسه ، ويعمل بنفسه ، ويصل بنفسه . . هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره ، وليكون جزاؤه من عمله . وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات . وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات ، فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف ، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع ، وما يشدهم من جواذب وأثقال . . فذلك فضل الله وعونه . وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده : ( وكان الله غفورا رحيما ) . .
وبهذا الإيقاع الهائل العميق تختم السورة التي بدأت بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى طاعة الله وعصيان الكافرين والمنافقين ، واتباع وحي الله ، والتوكل عليه وحده دون سواه . والتي تضمنت توجيهات وتشريعات يقوم عليها نظام المجتمع الإسلامي ، خالصا لله ، متوجها له ، مطيعا لتوجيهاته .
بهذا الإيقاع الذي يصور جسامة التبعة وضخامة الأمانة . ويحدد موضع الجسامة ومنشأ الضخامة . ويحصرها كلها في نهوض الإنسان بمعرفة الله والاهتداء إلى ناموسه ، والخضوع لمشيئته . .
بهذا الإيقاع تختم السورة ، فيتناسق بدؤها وختامها ، مع موضوعها واتجاهها . ذلك التناسق المعجز ، الدال بذاته على مصدر هذا الكتاب
فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة ، وما لهم من الثواب والعقاب فقال : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فله الحمد تعالى ، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين ، الدالين على تمام مغفرة اللّه ، وسعة رحمته ، وعموم جوده ، مع أن المحكوم عليهم ، كثير منهم ، لم يستحق المغفرة والرحمة ، لنفاقه وشركه .
قوله تعالى : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } قال : مقاتل : ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق ، { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً } يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة . وقال ابن قتيبة : أي : عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي : يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات .
قوله تعالى : " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات " اللام في " ليعذب " متعلقة ب " حمل " أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع ، فهي لام التعليل ؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة . وقيل ب " عرضنا " ، أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم الله ، وإيمان المؤمن ليثيبه الله . " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " قراءة الحسن بالرفع ، يقطعه من الأول ، أي يتوب الله عليهم بكل حال . " وكان الله غفورا رحيما " خبر بعد خبر " لكان " . ويجوز أن يكون نعتا لغفور ، ويجوز أن يكون حالا من المضمر . والله أعلم بالصواب .
ولما كان الحكم في الظاهر على جميع الإنسان ، وفي الحقيقة - لكون القضية الخالية عن السور في قوة الجزئية{[56198]} - على بعضه ، لكنه لما أطلق إطلاق الكلي فهم أن المراد الأكثر ، قال مبيناً أن " ال " ليست سوراً معللاً لحمله لها مقدماً التعذيب إشارة إلى أن الخونة أكثر ، لافتاً العبارة إلى الاسم الأعظم لتنويع المقال إلى جلال وجمال{[56199]} : { ليعذب الله } أي الملك الأعظم بسبب الخيانة في الأمانة ، وقدم من الخونة{[56200]} أجدرهم بذلك فقال : { المنافقين والمنافقات } أي الذين يظهرون بذل الأمانة كذباً وزوراً وهم حاملون لها عريقون في النفاق { والمشركين والمشركات } أي الذين يصارحون بحملها ومنعها عن أهلها وهم عريقون في الشرك فلا يتوبون منه{[56201]} .
ولما كان تقديم{[56202]} التعذيب مفهماً أن الخونة أكثر ، أشار إلى أن المخلص نادر جداً بقوله : { ويتوب الله } أي بما له من العظمة { على المؤمنين } أي{[56203]} العريقين في وصف الإيمان وهم الثابتون عليه إلى الموت { والمؤمنات } العصاة وغيرهم فيوفقهم لبذلها بعد حملها فالآية من الاحتباك : ذكر العذاب أولاً دليلاً على النعيم ثانياً ، والتوبة ثانياً دليلاً على منعها أولاً{[56204]} أي عرض{[56205]} هذا العرض وحكم هذا الحكم{[56206]} ليعذب وينعم بحجة يتعارفها الناس فيما بينهم{[56207]} .
ولما كان هذا مؤذناً بأنه ما من أحد إلا وقد حملها وقتاً ما ، فكان مرغباً للقلوب مرهباً للنفوس ، قال مؤنساً لها مرغباً : { وكان الله } أي على ما له من الكبر والعظمة والانتقام والملك والسطوة { غفوراً } أي محاء لذنوب التائبين الفعلية{[56208]} والإمكانية عيناً وأثراً { رحيماً } أي مكرماً لهم بأنواع الإكرام بعد الرجوع عن الإجرام ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مطلعها بالتقوى أمر في مقطعها بذلك على وجه عام ، وتوعد المشاققين والمنافقين الذين نهى في أولها عن طاعتهم ، وختم بصفتي المغفرة والرحمة كما ختم في أولها بهما آية الخطأ والتعمد ، فقد تلاقيا وتعانقا وتوافقا وتطابقا - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وهو أعلم بالصواب .
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مطلعها بالتقوى أمر في مقطعها بذلك على وجه عام ، وتوعد المشاققين والمنافقين الذين نهى في أولها عن طاعتهم ، وختم بصفتي المغفرة والرحمة كما ختم في أولها بهما آية الخطأ والتعمد ، فقد تلاقيا وتعانقا وتوافقا وتطابقا - والله{[1]} يقول الحق وهو{[2]} يهدي السبيل ، {[3]}وهو أعلم بالصواب{[4]} .