في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

56

ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعدما استعرض آياته في الآفاق . هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة ؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله :

هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخاً ، ومنكم من يتوفى من قبل ، ولتبلغوا أجلاً مسمى ، ولعلكم تعقلون . هو الذي يحيي ويميت ، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن . فيكون . .

وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان ، لأنه كان قبل وجود الإنسان . وفيها ما يشاهده ويراقبه . ولكن هذا إنما تم حديثاً بعد نزول هذا القرآن بقرون !

فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان . والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض . ومنها الحياة الإنسانية . ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة ، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة . وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة ، واتحادهما ، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة . . وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى ، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله ، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة : مرحلة الطفولة . ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين . ثم الشيخوخة . وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف . ( ومنكم من يتوفى من قبل )أن يبلغ هذه المراحل جميعاً أو بعضها . ( ولتبلغوا أجلاً مسمى )مقدراً معلوماً لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . ( ولعلكم تعقلون ) . . فمتابعة رحلة الجنين . ورحلة الوليد . وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير ، مما للعقل فيه دور كبير . .

ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقاً . وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص . ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرناً أمر يستوقف النظر . ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه .

ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي

مرحلة من مراحل الرشد العقلي . وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته . فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر . . فيحسون . . ثم يستجيبون أو لا يستجيبون !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

فكما خلقكم وحده ، فاعبدوه وحده فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلقه لأصلكم وأبيكم آدم عليه السلام . { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } وهذا ابتداء خلق سائر النوع الإنساني ، ما دام في بطن أمه ، فنبه بالابتداء ، على بقية الأطوار ، من العلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، فنفخ الروح ، { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } ثم هكذا تنتقلون في الخلقة الإلهية حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن ، وجميع قواه الظاهرة والباطنة .

{ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } بلوغ الأشد { وَلِتَبْلُغُوا } بهذه الأطوار المقدرة { أَجَلًا مُسَمًّى } تنتهي عنده أعماركم . { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أحوالكم ، فتعلمون أن المطور لكم في هذه الأطوار كامل الاقتدار ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأنكم ناقصون من كل وجه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

قوله تعالى :{ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً } أي : أطفالاً ، { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ، ومنكم من يتوفى من قبل } أي : من قبل أن يصير شيخاً ، { ولتبلغوا } جميعاً ، { أجلاً مسمىً } وقتاً معلوماً محدوداً لا تجاوزونه ، يريد أجل الحياة إلى الموت ، { ولعلكم تعقلون } أي : لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

وقوله { ولتبلغوا أجلا مسمى } أي وقتا محدودا لا تجاوزونه { ولعلكم تعقلون } ولكي تعقلوا أن الذي فعل ذلك لااله غيره

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

قوله تعالى : " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا " أي أطفالا . وقد تقدّم هذا{[13394]} . " ثم لتبلغوا أشدكم " وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل . وقد مضى في " الأنعام " {[13395]} بيانه . " ثم لتكونوا شيوخا " بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل ؛ لأنه جمع فعل ، نحو : قلب وقلوب ورأس ورؤوس . وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة ، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ ، مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة . وقرئ " شيخا " على التوحيد ، كقوله : " طفلا " والمعنى كل واحد منكم ، واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس . وفي الصحاح : جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخَة وشِيخَان ومَشْيَخَة ومشايخ ومشيوخاء ، والمرأة شيخة . قال عبيد{[13396]} :

كأنها شَيْخَةٌ رَقُوبُ{[13397]}

وقد شاخ الرجل يشيخ شَيَخًا بالتحريك على أصله وشيخوخة ، وأصل الياء متحركة فسكنت ؛ لأنه ليس في الكلام فعلول . وشيخ تشييخا أي شاخ . وشيخته{[13398]} دعوته شيخا للتبجيل . وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ . النحاس : وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين ؛ لأنها مؤنثة . والشيخ من جاوز أربعين سنة .

" ومنكم من يتوفى من قبل " قال مجاهد : أي من قبل أن يكون شيخا ، أومن قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا . " ولتبلغوا أجلا مسمى " قال مجاهد : الموت للكل . واللام لام العاقبة . " ولعلكم تعقلون " تعقلون ذلك فتعلموا أن لا إله غيره .


[13394]:راجع ج 12 ص 11 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13395]:راجع ج 7 ص 134 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13396]:هو عبيد بن الأبرص.
[13397]:الرقوب: التي ترقب ولدها خوف أن يموت. والبيت في وصف فرسه، وتمامه: *باتت على أرم عذوبا*
[13398]:الزيادة من كتب اللغة.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

{ ثم يخرجكم طفلا } أراد الجنس ولذلك أفرد لفظه مع أن الخطاب لجماعة .

{ ثم لتبلغوا أشدكم } ذكر الأشد في سورة يوسف عليه السلام واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا وأما { لتبلغوا أجلا مسمى } فمتعلق بمحذوف آخر تقديره : فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى وهو الموت أو يوم القيامة .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

ولما قامت الأدلة وسطعت الحجج على أنه سبحانه رب العالمين الذين من جملتهم المخاطبون ، ولا حكم للطبيعة ولا غيرها ، أتبع ذلك آية أخرى في أنفسهم هي أظهر مما مضى ، فوصل به على طريق العلة لمشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي في التي قبلها قوله تعالى : { هو } لا غيره { الذي } ولما كان الوصف بالتربية ماضياً ، عبر عنه به فقال : { خلقكم من تراب } أي أصلكم وأكلكم التي تربى به أجسادكم { ثم من نطفة } من مني يمنى { ثم من علقة } مباعداً حالها لحال النطفة كما كان النطفة مباعداً لحال التراب ، { ثم } بعد أن جرت شؤون أخرى { يخرجكم } أي يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء { طفلاً } لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً ، ثم يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال { لتبلغوا أشدكم ثم } يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول { لتكونوا شيوخاً } ضعفاء غرباء ، قد مات أقرانكم ، ووهت أركانكم ، فصرتم تخشون كل أحد .

ولما كان هذا مفهماً لأنه حال الكل ، بين أنه ما أريد به إلا البعض لأن المخاطب الجنس ، وهو يتناول البعض كما يتناول الكل فقال : { ومنكم من يتوفى } بقبض روحه وجميع معانيه . ولما كان الموت ليس مستغرقاً للزمن الذي بين السنين ، وإنما هو في لحظة يسيرة مما بينهما ، أدخل الجار على الظرف فقال : { من قبل } أي قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية .

ولما كان المعنى : لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم ، عطف عليه قوله : { ولتبلغوا } أي كل واحد منكم { أجلاً مسمى } أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل ، فلا يتعداه مرة ، ولا بمقدار ذرة ، فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان .

ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها ، وغير مترجاة عند من يجهلها ، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها ، فعبر فيها باللام ، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال : { ولعلكم تعقلون * } أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة وأدوار الأسنان ، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار ، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء .