وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين . مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، وبدا عليه الانتصار والفلاح . وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف :
( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ? ساء ما يحكمون ! ) . .
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد .
وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة ، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله . فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف ، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء .
أي : أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات ، أن أعمالهم ستهمل ، وأن اللّه سيغفل عنهم ، أو يفوتونه ، فلذلك أقدموا عليها ، وسهل عليهم عملها ؟ { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء حكمهم ، فإنه حكم جائر ، لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته ، وأن لديهم قدرة يمتنعون بها من عقاب اللّه ، وهم أضعف شيء وأعجزه .
قوله تعالى : " أم حسب الذين يعملون السيئات " أي الشرك . " أن يسبقونا " أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون . قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل . " ساء ما يحكمون " أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء و " ما " في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وهذا قول الزجاج وقدرها ابن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك : أحدهما : أن يكون موضع " ما يحكمون " بمنزلة شيء واحد كما تقول : أعجبني ما صنعت ، أي صنيعك ، ف " ما " والفعل مصدر في موضع رفع التقدير ، ساء حكمهم والتقدير الآخر أن تكون " ما " لا موضع لها من الإعراب ، وقد قامت مقام الاسم لساء وكذلك نعم وبئس . قال أبو الحسن بن كيسان : وأنا أختار أن أجعل ل " ما " موضعا في كل ما أقدر عليه ، نحو قوله عز وجل : " فبما رحمة من الله " [ آل عمران : 159 ] وكذا " فبما نقضهم " [ المائدة : 13 ] وكذا " أيما الأجلين قضيت " [ القصص : 28 ] " ما " في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها ، وكذا " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة " [ البقرة : 26 ] " ما " في موضع نصب و " بعوضة " تابع لها .
ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا ، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة ، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام : أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أنم ذلك لا يكون في الأخرى ، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عباده مجاناً ، فيكون خلقنا لهم عبثاُ لا حكمة فيه ، بل الحكمة في تركه ، وهذا الثاني هو معنى قوله منكراً أم حسب ، أو يكون المعنى أنه لما انكر على الناس عموماً ظنهم الإهمال ، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم ، فكان الإنكار عليهم أشد ، فعادل الهمزة بأم في سياق الإنكار كما عادلها بها في قوله :
( أتخذتم عند الله عهداً }[ البقرة : 80 ] الآية ، فقال : { أم حسب } أي ظن ظناً يمشي له ويستمر عليه ، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه { الذين يعملون السيئات } أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل - منها بالنهي عنها ، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله : { أن يسبقونا } أي يفوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقدر عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له ، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم ، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغرة داخرين ، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساؤوا إليه منهم ، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم .
ولما أنكر هذا ، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيماً لإنكاره فقال : { ساء ما يحكمون* } أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلاً لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضاً ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.