ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي :
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وهو العزيز الحكيم ) . .
قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون - في الأعم الأغلب - وروي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال : " إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب " . . وقيل : إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم ، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم .
وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم : إنهم " جوييم " باللغة العبرية أي أمميون . نسبة إلى الأمم - بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم ! - والنسبة في العربية إلى المفرد . . أمة . . أميون . وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة .
ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم ، فيجمعهم بعد فرقة ، وينصرهم بعد هزيمة ، ويعزهم بعد ذل . وكانوا يستفتحون بهذا على العرب ، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير .
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب ، من الأميين غير اليهود ؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية - كما سيجيء في المقطع التالي في السورة - وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف . وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل !
وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل . . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم ) . .
كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب ، ومن وراء القرون ، محفوظة عند الله لا تضيع ، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله ، وفق حكمته ؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسيقه ، وحتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء ، ولا يستأخر عن موعده المرسوم .
وتحققت هذه الدعوة - وفق قدر الله وتدبيره - بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم . . ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . كما قال إبراهيم ! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم : ( إنك أنت العزيز الحكيم )هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا : ( وهو العزيز الحكيم ) .
وقد سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن نفسه فقال : " دعوة أبي إبراهيم . وبشرى عيسى . ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " .
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين ؛ وليرسل فيهم رسولا منهم ، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم ؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم ، وتغيير ما بهم ، وتمييزهم على العالمين . .
( ويزكيهم ) . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تطهير للضمير والشعور ، وتطهير للعمل والسلوك ، وتطهير للحياة الزوجية ، وتطهير للحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد ؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح ، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ، ويتعامل مع الملأ الأعلى ؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل كتاب . ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور ، ويحسنون التقدير ، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير .
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . . ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ليكرهاه في المهاجرين من المسلمين ، ويشوها موقفهم عنده ، فيخرجهم من ضيافته وجيرته . . فقال جعفر :
" أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ؛ وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " . .
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها ، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح ؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة ؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر ، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات ، ومن ثم لم تستقيم أبدا بعد ذلك ، لا في حياة موسى عليه السلام ، ولا من بعده . حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه ، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة .
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية ، ومن انحلال الحضارة في الامبراطوريات الكبيرة ، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب ! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى . لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال ؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية ، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله ، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . .
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي . وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاما وظلاما !
وقد اختار الله - سبحانه - تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين ، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء . فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
{ 2-4 } { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
المراد بالأميين : الذين لا كتاب عندهم ، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم ، ممن ليسوا من أهل الكتاب ، فامتن الله تعالى عليهم ، منة عظيمة ، أعظم من منته على غيرهم ، لأنهم عادمون للعلم والخير ، وكانوا في ضلال مبين ، يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار ، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية ، يأكل قويهم ضعيفهم ، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء ، فبعث الله فيهم رسولاً منهم ، يعرفون نسبه ، وأوصافه الجميلة وصدقه ، وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } القاطعة الموجبة للإيمان واليقين ، { وَيُزَكِّيهِمْ } بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة ، ويفصلها لهم ، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : علم القرآن{[1092]} وعلم السنة ، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين ، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق ، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين ، وأكمل الخلق أخلاقًا ، وأحسنهم هديًا وسمتًا ، اهتدوا بأنفسهم ، وهدوا غيرهم ، فصاروا أئمة المهتدين ، وهداة المؤمنين{[1093]} ، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أكمل نعمة ، وأجل منحة .
قوله تعالى : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " قال ابن عباس : الأميون العرب كلهم ، من كتب منهم ومن لم يكتب ؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب . وقيل : الأميون الذين لا يكتبون . وكذلك كانت قريش . وروى منصور عن إبراهيم قال : الأمي الذي يقرأ ولا يكتب . وقد مضى في " البقرة{[14956]} " . " رسولا منهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه . قال ابن إسحاق : إلا حي تغلب ، فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة . وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم . قال الماوردي : فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء . الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم . الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .
قلت : وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته .
قوله تعالى : " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن " ويزكيهم " أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، قاله ابن عباس . وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ، قاله ابن جريج ومقاتل . وقال السدي : يأخذ زكاة أموالهم " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " السنة ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : " الكتاب " الخط بالقلم ؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط . وقال مالك بن أنس : " الحكمة " الفقه في الدين . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " . " وإن كانوا من قبل " أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم . " لفي ضلال مبين " أي في ذهاب عن الحق .
قوله : { هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم } الله الرحيم المنّان ، قد منّ بفضله على الأميين وهم العرب ، إذ بعث فيهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ونذيرا ، ليستنقذهم من وهدة الضلال والباطل إلى ذرا العلم والهداية والنور . والمراد بالأميين : الذين لا يقرأون ولا يكتبون . ومفرده الأمّي . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميّا من الأميين . وهذا دليل قائم أبلج على صدق نبوته وأنه رسول من ربه إلى العالمين .
قوله : { يتلوا عليهم آياته } الجملة الفعلية في موضع نصب نعت لرسول {[4533]} فهو صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس آيات الله وهو القرآن . هذا الكتاب الكريم الفذّ الذي ليس له في عجيب النّظم نظير . والذي لا يعارضه أو يضاهيه في الكلام أيما كلام . إنه الكلام الرباني المعجز في نظمه وأسلوبه وفيما تضمنه من جليل المعاني والأفكار والأخبار ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه أمّي . فما كان قارئا ولا كاتبا ولا أخذ عن أحد من الناس أيّما درس في العلم . لا جرم أن هذه حقيقة كبرى تشهد بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كلام الله المعجز .
قوله : { ويزكيهم } أي يطهر الناس من أدناس الشرك ومن أوضار الجاهلية على اختلاف مفاسدها وآثامها { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي يعلمهم القرآن ، والحكمة ، وهي السنة المطهرة أو الفقه في الدين { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } يعني وإن كانوا من قبل أن يبعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تائهين في الجهالة ، مائلين عن الحق والصواب ، متلبّسين بالشرك والباطل .