( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .
( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !
( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .
وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .
روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "
فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به ، ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه{[1259]} ، ثم أمره بالصدع بأمره ، وإعلان دعوتهم إلى الله ، فأمره هنا بأشرف العبادات ، وهي الصلاة ، وبآكد الأوقات وأفضلها ، وهو قيام الليل .
ومن رحمته تعالى ، أنه لم يأمره بقيام الليل كله ، بل قال : { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } .
الرابعة- قوله تعالى : " قم الليل " قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف . وحكى الفتح لخفته . قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض . وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول ، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار . وقد قيل : إن " قم " هنا معناه صل ، عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال .
الخامسة- " الليل " حد الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقد تقدم بيانه في سورة " البقرة " {[15500]} . واختلف : هل كان قيامه فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض ؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت . وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي . واختلف أيضا : هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال : الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة . الثاني : قول ابن عباس ، قال : كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله . الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح ، كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله . . . الحديث ، وفيه : فقلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ألست تقرأ : " يا أيها المزمل " قلت : بلى ! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا ، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة . وذكر الحديث .
السابعة- وذكر وكيع ويعلى قالا : حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول " يا أيها المزمل " [ المزمل : 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة . وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزل بعد عشر سنين : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم .
السادسة- قوله تعالى : " إلا قليلا " استثناء من الليل ، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه ؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن ، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد . والقليل من الشيء ما دون النصف ، فحكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث .
ثم خوطب بعد-{[69360]} ذلك بالنبي{[69361]} والرسول : { قم } أي في خدمتنا {[69362]}بحمل أعباء{[69363]} نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال ، واترك التزمل فإنه مناف للقيام{[69364]} .
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة ، وكانت النية خيراً{[69365]} من العمل ، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف ، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم ، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا ، فجعل إحياء البعض إحياء للكل ، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال : { الليل } أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا {[69366]}في كل ليلة من هذا الجنس{[69367]} وقف بين يدينا{[69368]} بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا{[69369]} فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده ، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة ، وهي عمادها ، فذكرها دال على ما عداها .
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل : { إلا قليلاً * } أي من كل ليلة ، ونودي هذا النداء لأنه-{[69370]} صلى الله عليه وسلم " لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال : " زملوني زملوني ! لقد خشيت على نفسي " . فسألته رضي الله عنها عن حاله ، فلما قص عليها أمره -{[69371]} قال{[69372]} : " خشيت على نفسي " يعني أن يكون هذا مبادىء شعر أو كهانة ، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك ، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة ، فقالت{[69373]} له وكانت وزيرة صدق{[69374]} : " كلا والله ! لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق " ونحو هذا من المقال الذي يثبت ، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه ، وقصر بصره وبصيرته على حسه ، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية ، وزال ما عرض من العلة البدنية .
وقال الإمام أبو جعفر{[69375]} بن الزبير : لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها{[69376]} وتم مقصدها ومبناها ، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة ، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة ، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم ، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه{[69377]} في أذكاره من ليله ونهاره ، مفتتحاً{[69378]} ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة{[69379]} { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] {[69380]}وكان ذلك{[69381]} تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ] إلى آخره ، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه ، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى
{ فاصبر صبراً جميلاً }[ المعارج : 5 ]
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً }[ المزمل : 10 - 11 ] وهذا عين الوارد في قوله تعالى :
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ] وفي قوله
{ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار }[ ق : 45 ] ثم قال :
{ إن لدينا أنكالاً }[ المزمل : 12 ] فذكر ما أعد لهم ، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه ، وبان لك التحام ما ذكره ، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - وأجزل جزاءهم مع وقوع{[69382]} التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله
( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم{[69383]} فاقرؤوا ما تيسر من القرآن }[ المزمل : 20 ] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور{[69384]} إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى :
قوله : { قم الليل إلا قليلا } أي صلّ الليل كله إلايسيرا منه ، فاستثنى من قيامه القليل منه ليستريح الجسد و يرقد . أما بقية الليل وهو الشطر الأكبر منه فقد كان قيامه فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته . وقد تشمّر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لذلك حق التشمّر فأقبلوا على إحياء الليالي متجافين عن الدعة والرقاد ، وتجاهدوا في ذلك حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم وظهرت السّيمي في وجوههم ، واستمروا على ذلك مدة سنة حتى رحمهم الله وخفف عنهم فيما نبينه في موضعه إن شاء الله .