ويتبع هذه اللمسة المحيية ، وذلك العتاب المخجل ، وذاك التذكير والتحذير ، بحافز جديد للبذل والفداء :
( إن المصدقين والمصدقات ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، يضاعف لهم ولهم أجر كريم . والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ، والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ؛ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .
إن المتصدقين والمتصدقات لا يتفضلون على آخذي الصدقات ، ولا يتعاملون في هذا مع الناس . إنما هم يقرضون الله ويتعاملون مباشرة معه . فأي حافز للصدقة أوقع وأعمق من شعور المعطي بأنه يقرض الغني الحميد ، وأنه يتعامل مع مالك الوجود? وأن ما ينفقه مخلف عليه مضاعفا ؛ وأن له بعد ذلك كله أجرا كريما ?
{ 18-19 } { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } بالتشديد أي : الذين أكثروا من الصدقات الشرعية ، والنفقات المرضية ، { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون مدخرا لهم{[986]} عند ربهم ، { يُضَاعَفُ لَهُمُ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعده الله لهم في الجنة ، مما لا تعلمه النفوس .
قوله تعالى : " إن المصدقين والمصدقات " قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق ، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى . الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد ، وكذلك في مصحف أُبَيّ . وهو حث على الصدقات ، ولهذا قال : " وأقرضوا الله قرضا حسنا " بالصدقة والنفقة في سبيل الله . قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع . وقيل : هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا . وإنما عطف بالفعل على الاسم ؛ لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل ، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا " يضاعف لهم " أمثالها . وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله . وقرأ الأعمش " يضاعفه " بكسر العين وزيادة هاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " يضعف " بفتح العين وتشديدها . " ولهم أجر كريم " يعني الجنة .
{ إن المصدقين والمصدقات } بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين ، وكذلك قرأ أبي بن كعب وقرئ بالتخفيف من التصديق أي : صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام ، { وأقرضوا الله } معطوف على المعنى ، كأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا ، وقد ذكرنا معنى { أقرضوا } في قوله : { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] .
ولما كانت الصدقة كالبذر الذي تقدم أن الله تعالى يحييه ويضاعفه أضعافاً كثيرة على حسب زكاء الأرض ، قال منتجاً مما مضى ما يعرف أن من أعظم ما دل على الخشوع المحثوث عليه والبعد عن حال{[62505]} الذين أوتوا الكتاب في القسوة الصدقة بالإنفاق الذي قرنه في أولها بالإيمان ، وحث عليه في كثير من آياتها تنبيهاً على أنه ثمرته التي لا تخلف عنه ، معبراً عنه بما يرشد إلى أنه المصدق لدعواه ، وأكده{[62506]} لمن يشك في البعث من إنكار بركة الصدقة عاجلاً أو آجلاً تقيداً بالمحسوسات : { إن المصدقين } أي العريقين في هذا الوصف من الرجال { والمصدقات } أي من النساء بأموالهم على الضعفاء الذين إعطاؤهم يدل على الصدق في الإيمان لكون{[62507]} المعطى لا يرجى منه نفع دنيوي ، ولعله أدغم إشارة إلى إخفاء الصدقات ، وقراءة [ أبي ]{[62508]} رضي الله عنه بالإظهار ترشد إلى الإكثار من الصدقة حتى تصير ظاهرة ، وقراءة ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف{[62509]} تدل مع ذلك على التصديق بالإيمان ، فكل من القراءات يدل عليهما ، ومن التفصيل بذكر النوعين تعرف شدة الاعتناء .
ولما كانت صيغة التفعل تدل على التكلف حثاً على حمل النفس على التطبع بذلك حتى يصير لها خلقاً في غاية الخفة عليها فقال عاطفاً على صلة الموصول في اسم الفاعل معبراً بالماضي بعد إفهام الوصف الثبات دلالة على الإيقاع بالفعل عطفاً على ما{[62510]} تقديره موقعاً ضميراً المذكر على الصنفين تغليباً الذين صدقوا إيمانهم بالتصدق{[62511]} : { وأقرضوا الله } الذي له الكمال كله بتصديقهم سواء كانوا من الذكور أو الإناث ، وإنفاقهم في كل ما ندب إلى الإنفاق{[62512]} فيه ، وأكد ووصف بقوله : { قرضاً حسناً } أي بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية في الصدقة والنفقة في سبيل الخير ، وحسنه أن يصرف {[62513]}بصره إلى النظر{[62514]} إلى فعله والامتياز به وطلب العوض عليه ، قال الرازي : { يضاعف } أي ذاك القرض { لهم } ويثابون بحسب تلك المضاعفة لأن الذي كان القرض له سبحانه حليم كريم ولا يرضى في الخير إلا بالفضل ، وثقل في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب{[62515]} دلالة على المبالغة في التكثير ، وعبر بالمفاعلة{[62516]} في قراءة الجماعة لإفهام أن تلك الكثرة مما لا بد من كونه ، وأنه عمل فيه عمل من يباري آخر ويغالبه ، وبنى للمفعول دلالة على باهر العظمة اللازم عنه كونه بغاية السهولة { ولهم } أي مع المضاعفة { أجر كريم * } أي لا كدر فيه بانقطاع ولا قلة ولا زيادة بوجه من الوجوه أصلاً .
{ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم }
{ إن المصَّدقين } من التصديق أدغمت التاء في الصاد ، أي الذين تصدقوا { والمصَّدقات } اللاتي تصدقن وفي قراءة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق والإيمان { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } راجع إلى الذكور والإناث بالتغليب وعطف الفعل على الاسم في صلة أل لأنه فيها حل محل الفعل ، وذكر القرض بوصفه بعد التصدق تقييد له { يضاعف } وفي قراءة يضعف بالشديد ، أي قرضهم { لهم ولهم أجر كريم } .