وتأتي الجولة الأخيرة تعالج القضية التي عالجتها الجولات الثلاث من قبل . فتقرر أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل . وتقرر إخلاص العبادة لله وحده . و تقرر قضية اليوم الآخر الذي لا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . وتستصحب مع هذه القضايا مؤثرات منوعة جديدة . وتعرضها في المجال الكوني الفسيح . .
( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ? وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى ? وأن الله بما تعملون خبير ? ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير ) . .
ومشهد دخول الليل في النهار . ودخول النهار في الليل ، وتناقصهما وامتدادهما عند اختلاف الفصول ، مشهد عجيب حقا ، ولكن طول الألفة والتكرار يفقد أكثر الناس الحساسية تجاهه فلا يلحظون هذه العجيبة ، التي تتكرر بانتظام دقيق ، لا يتخلف مرة ولا يضطرب ؛ ولا تنحرف تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد . . والله وحده هو القادر على إنشاء هذا النظام وحفظه ؛ ولا يحتاج إدراك هذه الحقيقة إلى أكثر من رؤية تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد .
وعلاقة تلك الدورة بالشمس والقمر وجريانهما المنتظم علاقة واضحة . وتسخير الشمس والقمر عجيبة أضخم من عجيبة الليل والنهار ونقصهما وزيادتهما . وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير . وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم . ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ؛ وحقيقة تسخير الشمس والقمر - وهما حقيقتان كونيتان بارزتان - حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة : ( وأن الله بما تعملون خبير ) . . وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية ، إلى جانب الحقائق الكونية . حقيقة مثلها ، ذات ارتباط بها وثيق .
{ ألم تر ان الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى اجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير( 29 ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير( 30 ) ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من ءاياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور( 31 ) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور( 32 ) }
يولج الليل : يدخل الليل والمراد : أنه يضيف الليل إلى النهار والعكس بالعكس فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا .
كل يجري : كل يسير سيرا سريعا .
إلى أجل مسمى : قيل هو يوم القيامة وقيل هو منتهى دورتهما .
{ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير . }
ألم تنظر أيها العاقل أو يا كل من يتأتى منه النظر أن الله يطيل الليل في الشتاء فياخذ الليل من ساعات النهار تدريجيا حتى يصل الليل إلى أربع عشرة ساعة ، ثم يقصر الليل تدريجيا حتى يصل في الصيف إلى عشر ساعات والنهار إلى أربع عشرة ساعة وقد ذلل الشمس والقمر وخلقهما مسخرين تطلع الشمس في ميعادها تملأ الكون بأشعتها وتنير للمخلوقين وتمد الكون بالضوء والحرارة ويستفيد منها الإنسان والحيوان والنبات والفضاء والهواء والأفلاك والأقمار وقد سخر الله القمر فيبدأ هلالا صغيرا ثم يكبر تدريجيا حتى يصبح بدرا كاملا ثم يتناقص فيرجع صغيرا كما بدأ وإذا انتهى أمر الدنيا انعدم ضوء الشمس وانعدم ضوء القمر فالشمس والقمر نيران مسخران إلى أمد محدد هو يوم القيامة ، أو نهاية عمرهما حيث تصبح الشمس من النجوم القزمة .
قال تعالى : إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت . ( التكوير : 1-2 ) .
أي : إذا انتهت وظيفة الشمس والنجوم قامت القيامة وبدأ الحساب والجزاء .
فهو سبحانه مطلع وشاهد يرى كل شيء لا تخفى عليه خافية وسيحاسب الإنسان على عمله ويجازيه عليه جزاء السميع البصير الخبير .
ولما قرر هذه الآية الخارقة ، دل عليها بأمر محسوس{[54189]} يشاهد كل يوم مرتين ، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض ، وإبطال قولهم :{ ما يهلكنا إلا الدهر }[ الجاثية : 24 ] بأنه ، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك ، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك{[54190]} حق فهمه غيره ، أو عاماً كل عاقل ، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال : { ألم تر } أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب ، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره .
ولما كان {[54191]}البعث مثل{[54192]} إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه ، فكان إنكاره{[54193]} إنكارً لهذا ، نبه على ذلك بالتأكيد{[54194]} فقال : { أن الله } أي{[54195]} بجلاله وعز كماله { يولج } أي يدخل{[54196]} إدخالاً لا مرية فيه { الليل في النهار } فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه ، فإذا النهار قد{[54197]} عم الأرض كلها أسرع من اللمح { ويولج النهار } أي يدخله كذلك { في الليل } فيخفي حتى لا يبقى له أثر ، فإذا الليل قد طبق الآفاق{[54198]} : مشارقها ومغاربها في مثل الظرف ، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله ، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره ، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة ، عبر فيه{[54199]} بالمضارع .
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفا على طريق معلوم بقدر لا يختلف ، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه {[54200]}فقال : { وسخر الشمس } آية للنهار بدخول الليل فيه { والقمر } آية لليل كذلك ! ثم استأنف ما سخرا فيه{[54201]} فقال : { كل } أي منهما { يجري } أي{[54202]} في فلكه سائراً متمادياً و{[54203]} بالغاً ومنتهياً .
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة ، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير ، والمد في الإبداع والتسيير ، كان الموضع{[54204]} لحرف الغاية فقال : { إلى أجل مسمى } لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص ، هذا يقطعها في الشهر{[54205]} مرة وتلك في السنة مرة ، لا يقدرواحد منهما أن يتعدى طوره ، ولا أن ينقص دوره ، ولا أن يغير سيره .
ولما بان بهذا التدبير المحكم ، في هذا{[54206]} الأعظم ، شمول علمه وتمام قدرته ، عطف على{[54207]} " أن الله " قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها : { وأن الله } أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها ، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه{[54208]} بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة ، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً{[54209]} فقال : { بما تعملون } أي{[54210]} في كل وقت على سبيل التجدد { خبير * } لا يعجزه شيء منه{[54211]} ولا يخفى عنه ، لأنه الخالق له كله دقه وجله ، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه ، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً ، وكم{[54212]} أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد ، فكان ما قاله كما قاله ، لم{[54213]} يقدر أحد منهم{[54214]} أن يخالف في شيء مما قاله ، فتمت كلماته ، وصدقت إشاراته وعباراته ، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر ، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن{[54215]} عمل من حركة وسكون ، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل{[54216]} أن دائماً ما تعاقب الملوان ، وبقي الزمان ، لا يشغله شأن منه عن شأن ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا{[54217]} بهذا في غاية العلم به{[54218]} . لما ذكر من دليله ، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين ، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب ، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك ، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم ، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى ، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة .