ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت . فالموت ليس نهاية المطاف . إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة ، التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدى . فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف .
ويجيء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه ، ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى .
تختصمون : في يوم القيامة أمام الله تعالى ، يتخاصم الكافر والمؤمن ، والظالم والمظلوم ، يقال : اختصم القوم ، أي : خاصم بعضهم بعضا .
31- { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } .
أي : تعاد الخصومة التي بينك وبينهم يوم القيامة أمام الله تعالى ، فتشهد يا محمد بأنك بلّغت الرسالة ، وأدّيت الأمانة ، وأنهم قد كذبوا بالحق ، وكفروا بالله ورسوله ، ويعتذرون بما بلا طائل تحته .
وقد أورد ابن كثير وغيره من المفسرين ، طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة ، تفيد أن التخاصم يوم القيامة يكون بين المؤمن والكافر ، وبين الظالم والمظلوم ، وأن الله تعالى يعيد الخصومة التي كانت في الدنيا بين المتخاصمين مرة أخرى لتحقيق العدالة الكاملة الحقة . ومعاقبة الظالمين ، ومكافأة المؤمنين .
جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
{ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } .
يعني تخاصم الكافر والمؤمن ، والظالم والمظلوم .
وقال الزبير : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله ، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا من خواص الذنوب ؟ قال : " نعم ، ليكرّرن عليكم حتى يؤدّى إلى كل ذي حق حقه " فقال الزبير : والله إن الأمر لشديد .
وأخرج مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون من المفلس " ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال صلى الله عليه وسلم : " المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " {[597]} .
وفي البخاري ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليحتلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " {[598]} {[599]} .
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالحاكم الجائر الخائن يوم القيامة ، فتخاصمه الرعية ، فيفلحون عليه ، فيقال له : سدّ ركنا من أركان جهنم " {[600]} .
ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار ، وإذلال الظالم ، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة : { ثم إنكم } أي أيها العباد كلكم ، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره هل راعى حق الله فيه ، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين ، وزاد في إثبات المعنى بقوله : { يوم القيامة } فساقه مساق ما لا خلاف فيه ، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله ، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي { عند ربكم } أي المربي لكم بالخلق والرزق ، فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً ، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة ، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء { تختصمون * } أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم ، ويجازي كلاًّ بما عمل ، أما في الشر فسوءاً بسوء ، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه ، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها - إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره ، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل ، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه ، ويسر بما ييسر حسابه ، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان ، ولا يشتغل بما لا يكون من تصفية دار الكدر عن الأكدار ، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار ، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال ، قال القشيري : نعاه صلى الله عليه وسلم إليه ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم ، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث ، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه ، فليس له من هذا الحديث شمة ، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته ، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم ، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا :
كتبت إليكم بعد موتي بليلة *** ولم أدر أني بعد موتي أكتب
انتهى . ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم ، فانفسحت صدورهم ، وانتعشت قوى قلوبهم فاتسعت علومهم ، واستنارت فهومهم ، وتجلت لهم حقائق الأمور ، فحدثوا عن مشاهدة { الناس نيام } فإذا ماتوا انتبهوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.