وفي الجانب الآخر : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ) . . والإيمان الأول يشمل الإيمان بما نزل على محمد . ولكن السياق يبرزه ويظهره ليصفه بصفته : ( وهو الحق من ربهم )ويؤكد هذا المعنى ويقرره . وإلى جوار الإيمان المستكن في الضمير ، العمل الظاهر في الحياة . وهو ثمرة الإيمان الدالة على وجوده وحيويته وانبعاثه .
وهؤلاء : ( كفر عنهم سيئاتهم ) . . في مقابل إبطال أعمال الذين كفروا ولو كانت حسنات في شكلها وظاهرها . وبينما يبطل العمل ولو كان صالحا من الكافرين ، فإن السيئة تغفر للمؤمنين . وهو تقابل تام مطلق يبرز قيمة الإيمان وقدره عند الله ، وفي حقيقة الحياة . .
( وأصلح بالهم ) . . وإصلاح البال نعمة كبرى تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر . والتعبير يلقي ظلال الطمأنينة والراحة والثقة والرضى والسلام . ومتى صلح البال ، استقام الشعور والتفكير ، واطمأن القلب والضمير ، وارتاحت المشاعر والأعصاب ، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والسلام . . وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع ? ألا إنه الأفق المشرق الوضيء الرفاف .
وهو الحق من ربهم : الحق الثابت الذي لا مرية فيه .
كفر عنهم سيئاتهم : أزالها ومحاها بالإيمان والعمل الصالح .
وأصلح بالهم : حالهم في الدين والدنيا ، وأصل البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت به ، أي : ما اكترثت به ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمان الرحيم فهو أجزم أو أقطع ) .
2- { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } .
والذين آمنوا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن كتابا منزلا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وآمنوا بأن القرآن كتاب الله ، نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن حق وعدل وصدق أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء المؤمنون يقبل الله إيمانهم ويكفر عنهم السيئات التي ارتكبوها قبل الإسلام ، ويرزقهم الهدى والتقوى ، والسعادة في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، ويصلح بالهم وشأنهم وأمورهم .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } : أي آمنوا بالله وآياته ورسوله ولقائه وأدوا الفرائض وجتنبوا النواهي .
{ وآمنوا بما نزل على محمد } : أي بالقرآن الكريم .
{ كفر عن سيئاتهم } : أي محا عنه ذنوبهم وغفرها لهم .
{ وأصلح بالهم } : أي شأنهم وحالهم فهم لا يعصون الله تعالى .
هذا وقوله تعالى { والذين آمنوا } أي بالله ورسوله وآياته ولقائه وعملوا الصالحات أي أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت الحرام ووصلوا الأرحام وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولو بالاستعداد للقيام بذلك إذ بعض هذه الصالحات لم يشرع بعد وآمنا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة لأنها وحي إلهي يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح الحديث [ ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه } وقوله تعالى { وهو الحق من ربهم } أي القرآن لأنه ناسخ للكتب قبله ولا ينسخ بكتاب بعده . فهو الحق الثابت الباقي إلى نهاية الحياة . وقوله { كفّر عنهم سيئاتهم } أي محا عنهم ذنوبهم وأصلح بالهم أي شأنهم وحالهم فلم يفسدوا بعد بشرك ولا كفر هذا جزاؤهم على إيمانهم وصالح أعمالهم .
وأما { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة .
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها ، وإذا كفرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة . { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :
ولما ذكر أهل{[59275]} الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم ، ذكر أضدادهم كذلك ليعم من كان منهم من جميع الفرق فقال تعالى : { والذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان باللسان { وعملوا } تصديقاً لدعواهم{[59276]} ذلك { الصالحات } أي الأعمال الكاملة في الصلاح بتأسيسها على الإيمان . ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، خصهم بقوله تعالى : { وآمنوا } أي مع ذلك .
ولما كان بعضهم كحيي بن أخطب ومن نحا نحوه قد طعن في القرآن بنزوله منجماً مع أن التوراة ما نزلت إلا كذلك ، وليس أحد منهم يقدر{[59277]} أن ينكره قال : { بما نزل } أي ممن لا منزل إلا هو{[59278]} {[59279]}منجماً مفرقاً ليجددوا بعد الإيمان به{[59280]} إجمالاً الإيمان بكل نجم منه { على محمد } النبي الأمي العربي القرشي المكي ثم-{[59281]} المدني الذي يجدونه مكتوباً عندهم{[59282]} في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم ، ولما كان هذا معلماً بأن كل إيمان لم يقترن بالإيمان به صلى الله عليه وسلم-{[59283]} لم يعتد به ، اعترض بين المبتدأ وجوابه بما يفهم علته حثاً عليه وتأكيداً له فقال تعالى : { وهو } أي هذا الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم مختص بأنه { الحق } أي الكامل في الحقية لأن ينسخ ولا ينسخ{[59284]} كائناً { من ربهم } المحسن إليهم بإرساله{[59285]} ، أما إحسانه إلى أمته فواضح ، وأما سائر الأمم {[59286]}فبكونه هو{[59287]} الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة ، وأمته هي الشاهدة لهم .
ولما ثبت بهذا أنهم أحق الناس بالحق ، بين ما أثمر{[59288]} لهم ذلك دالاً على أنه لا يقدر أحد-{[59289]} أن يقدر الله حق قدره ، فلا يسع الخلق إلا العفو لأنهم وإن اجتهدوا في الإصلاح {[59290]}بدا لهم{[59291]} لنقصانهم من سيئات أو هفوات فقال تعالى : { كفر } أي غطى تغطية عظيمة { عنهم } في الدارين بتوبتهم وإيمانهم لأن التوبة تجب ما كان قبلها كالإيمان { سيئاتهم } أي الأعمال السيئة التي لحقتهم قبل ذلك بما يظهر لهم من المحاسن وهدى أعمالهم . ولما كان من يعمل سوءاً يخاف عاقبته فيتفرق فكره ، إذ لا عيشة لخائف{[59292]} قال تعالى : { وأصلح بالهم * } أي موضع سرهم وفكرهم بالأمن والتوفيق والسداد وقوة الفهم والرشاد{[59293]} لما يوفقهم له من محاسن الأعمال ويطيب به اسمهم في الدارين ، قال ابن برجان : وإذا أصلح ذلك من العبد-{[59294]} صلح ما يدخل{[59295]} إليه وما يخرج عنه وما يثبت فيه ، وإذا فسد فبالضد من ذلك . ولذلك إذا اشتغل البال لم ينتفع {[59296]}من صفات{[59297]} الباطن بشيء ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر ضلال الكفار أولاً دليلاً على إرادة الهدى للمؤمنين ثانياً ، وإصلاح البال ثانياً دليلاً على حذف-{[59298]} إفساده أولاً .