وعند ذكر الإحياء يرتسم مشهد الحساب كأنه شاخص للعيون :
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أليس هذا بالحق ? قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
يبدأ المشهد حكاية أو مقدمة لحكاية : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) . .
وبينما السامع في انتظار وصف ما سيكون ، إذا المشهد يشخص بذاته . وإذا الحوار قائم في المشهد المعروض :
ويا له من سؤال ? بل يا لها من قارعة للذين كانوا يكذبون ويستهزئون ويستعجلون ، واليوم تتلوى أعناقهم على الحق الذي كانوا ينكرون .
والجواب في خزي وفي مذلة وفي ارتياع :
هكذا هم يقسمون : ( وربنا ) . . ربهم الذي كانوا لا يستجيبون لداعيه ، ولا يستمعون لنبيه ولا يعترفون له بربوبية . ثم هم اليوم يقسمون به على الحق الذي أنكروه !
عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع ، ويقضى الأمر ، وينتهي الحوار :
( قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
[ كلمة ورد غطاها ] . . كما يقال ! الجريمة ظاهرة . الجاني معترف . فإلى الجحيم !
وسرعة المشهد هنا مقصودة . فالمواجهة حاسمة ، ولا مجال لأخذ ولا رد . لقد كانوا ينكرون .
يعرض الذين كفروا على النار : يوقفون عليها ، ويمررون بها .
34- { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .
واذكر لهم أحداث يوم القيامة ، ومنها أخذ الكفار لمشاهدة النار وأهوالها ، وعذابها وحميمها وغسلينها ، وسائر أحوالها . وعندئذ يقال للكفار الذين كانوا يسخرون من المؤمنين ، ويستبعدون وقوع العذاب ، ويقولون : { هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } . ( المؤمنون : 36 ، 37 ) .
لكنهم يوم القيامة يؤكدون أن النار والعذاب ، والحساب والقيامة ، والجزاء والعقاب ، حق وصدق ، ويقسمون بالله مؤكدين ذلك ، لعلهم بهذه الشهادة والحلف عليها لتأكيدها أن يفروا من العذاب ، لكن الجواب عليهم يكون مقابلا لأعمالهم في الدنيا .
{ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .
أي : اصطلوا بنار جهنم ، وذوقوا ألوان العذاب فيها ، بسبب كفركم بالله ، وعدم استجابتكم لرسل الله في الدنيا ، وتكذيبكم بقدرة الله على البعث والحشر ، والجزاء والعقاب ، فالجزاء لكم من جنس العمل ، بسبب كفركم ، ولا ظلم في ذلك لكم ، لأن الله لا يظلم أحدا وهو عادل كل العدل .
{ بلى } أي هو قادر على إحياء الموتى . { أليس هذا بالحق } أي أليس هذا العذاب بالحق ! وقد كنتم تقولون " وما نحن بمعذبين " {[322]} ! .
ولما ثبت البعث بما قام من الدلائل ذكر ببعض ما يحصل في يومه من الأهوال تحذيراً منه ، فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا القياس الناطق بالمراد وما مضى في هذه السورة من الزواجر{[59187]} { ويوم } أي و-{[59188]} اذكر{[59189]} يوم { يعرض } {[59190]}بأيسر أمر من أوامرنا { الذين كفروا } أي ستروا بغفلتهم{[59191]} وتماديهم عليه هذه الأدلة الظاهرة { على النار } عرض الجند على الملك فيسمعوا من تغيظها وزفيرها ويروا من لهيبها واضطرامها{[59192]} وسعيرها ما لو قدر أن أحداً يموت من ذلك لماتوا من معاينته وهائل رؤيته .
ولما كان كأنه قيل : ماذا يصنع بهم في حال عرضهم ؟ قيل : يقال على سبيل التبكيت والتقريع والتوبيخ : { أليس هذا } أي الأمر العظيم الذي كنتم به توعدون{[59193]} ولرسلنا في أخبارهم تكذبون { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فلا قدرة لكم على صليه أمر هو خيال وسحر ، فلا تبالون بوروده .
ولما اشتد تشوف{[59194]} السامع العالم بما كانوا يبدون من الشماخة والعتو إلى جوابهم ، قال في جوابه مستأنفاً{[59195]} : { قالوا } أي مصدقين حيث لا ينفع التصديق : { بلى } و-{[59196]} ما كفاهم البدار{[59197]} إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه لأن حالهم كان مباعداً للإقرار ، وذكروا صفة الإحسان زيادة في الخضوع والإذعان { وربنا } أي إنه لحق هو من أثبت الأشياء ، وليس فيه شيء مما يقارب السحر ، ثم استأنف جواب من سأل عن جوابه لهم-{[59198]} بقوله تعالى : { قال } مبكتاً لهم بياناً لذلهم موضع كبرهم الذي كان في الدنيا مسبباً عن تصديقهم هذا الذي أوقعوه{[59199]} في غير موضعه وجعلوه في دار العمل التي مبناها على الإيمان بالغيب تكذيباً معبراً بما يفهم غاية الاستهانة لهم : { فذوقوا العذاب } أي باشروه مباشرة الذائق باللسان ، ثم صرح بالسبب{[59200]} فقال : { بما كنتم } أي خلقاً {[59201]}وخلقاً{[59202]} مستمراً {[59203]}دائماً أبداً{[59204]} { تكفرون{[59205]} * } في دار العمل .