ولكن أولئك القوم لم ينظروا للمسألة من هذا الجانب أصلا . إنما نظروا إليها من جانب آخر ساذج شديد السذاجة ، بعيد كل البعد عن إدراك حقيقة الحياة والموت ، وعن إدراك أي طرف من حقيقة قدرة الله . فقالوا : ( أئذا متنا وكنا ترابا ? ذلك رجع بعيد ) !
والمسألة إذن في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى . وهي نظرة ساذجة كما أسلفنا ، لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى . كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة ، وتحيط بهم في جنبات الكون كله . وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة .
غير أننا قبل أن نمضي مع لمسات القرآن وآياته الكونية في معرض الحياة ، نقف أمام لمسة البلى والدثور التي تتمثل في حكاية قولهم والتعليق عليه :
أإذا متنا وكنا ترابا . . . ? . . وإذن فالناس يموتون . وإذن فهم يصيرون ترابا . وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه ، وإلى غيره من الأحياء حوله . يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور . بل ليحس دبيب البلى في جسده وهو بعد حي فوق التراب ! وما كالموت يهز قلب الحي ، وليس كالبلى يمسه بالرجفة والارتعاش .
ذلك رجع بعيد : ذلك البعث رجع بعيد عن الوقوع ، أو عن الإمكان .
3- { أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } .
إذا متنا ودفنا في الأرض ، وتفسخت أجسامنا ، وأدركنا الفناء والبلى ، فإن عودة الحياة إلينا بعيدة ، فما أبعد الفرق بين الموت والغياب في الأرض ، وتمزق الجسد ووهن العظام وتفتتها ، ثم الحياة والحركة والبعث .
وكثيرا ما استعرض القرآن شبهات الكافرين وناقشها وفنّدها ، فذكر ما يأتي :
( أ ) الذي بدأ الخلق أول مرة قادر على الإعادة مرة أخرى .
( ب ) قدرة الله لا حدود لها ، فهو على كل شيء قدير .
( ج ) علم الله محيط بكل شيء ، فهو يعلم كل ذرة في أجسامهم ، وعنده كتاب قد سجل فيه كل شيء عنهم .
قال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 ) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( 81 ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 ) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 ) } . ( يس : 78-83 ) .
قوله تعالى : " أئذا متنا وكنا ترابا " نبعث ، ففيه إضمار . " ذلك رجع بعيد " الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال . يقال : رجعته أرجعه رجعا ، ورجع هو يرجع رجوعا ، وفيه إضمار آخر ، أي وقالوا أنبعث إذا متنا . وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع ، والقرآن كالسورة الواحدة . وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله : " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم " لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة .
{ أئذا متنا وكنا ترابا } العامل في إذا محذوف تقديره أنبعث إذا متنا .
{ ذلك رجع بعيد } الرجع مصدر رجعته والمراد به البعث بعد الموت ومعنى بعيد أي : بعيد الوقوع عندهم ، وقيل : الرجع الجواب أي : جوابهم هذا بعيد عن الحق وعلى هذا يكون قوله { ذلك رجع بعيد } من كلام الله تعالى وأما على الأول فهو حكاية كلام الكفار وهو أظهر .
ولما كان المتعجب منه مجملاً ، أوضحه بقوله حكاية عنهم مبالغين في الإنكار ، بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري : { إذا متنا } ففارقت أرواحنا أشباحنا { وكنا تراباً } لا فرق بينه وبين تراب الأرض . ولما كان العامل في الظرف ما تقديره : نرجع ؟ دل عليه بقوله والإشارة بأداة البعد {[61063]}إلى عظيم{[61064]} استبعادهم : { ذلك } أي الأمر الذي هو في {[61065]}تمييز ترابنا من بقية التراب{[61066]} في غاية البعد ، وهو مضمون الخبر برجوعنا { رجع } أي رد إلى ما كنا عليه{[61067]} { بعيد * } جداً-{[61068]} لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب .