قوله : «بَلْ عَجِبُوا » يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ{[52245]} عنه فما ذلك ؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال : ما الأمر كما تقولون{[52246]} . قال ابن الخطيب : والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر ، وكأنه قال بعده : إنهم شكوا فيه . ثم أضرب عنه وقال : بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة .
فإن قيل : فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه ، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز ؟ ! .
قال ابن الخطيب : أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر ، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس ، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ ، فإذا قال له غيره : هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله ( تعالى{[52247]} ) ذكر{[52248]} المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر . وأما حذف المُضْرب عنه ، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر ، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما ، فإذا عظم{[52249]} التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب ، مثاله يحسن أن يقال : الوَزيرُ يعظم ، فلا يماثل الملك بعظمه ، ولا يحسن أن يقال : البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً ، إذ الإِضراب للتدريج ، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران :
أحدهما : الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه .
والثاني : عِظَم التفاوت بينهما ، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد{[52250]} .
قوله : «أَنْ جَاءَهُمْ » فيه سؤال ، وهو : أنْ مع الفعل بتقدير المصدر . . . تقول : «أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام » ، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز ( أن تقول ) {[52251]} : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء ، ولا يجوز أن تقول : أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ ، ولا يجوز أن يقال{[52252]} : عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك : عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه ! .
والجواب : أن قوله : أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر ، لكنه في الصورة تقدير ، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة ، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ ، ولا يجوز : عجبوا مَجِيئَهُمْ ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ{[52253]} .
قوله : «مِنْهُمْ » أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم ، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } [ القمر : 24 ] و{ قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ يس : 15 ] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم ؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم ، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون : نحن لا نقدر على ذلك ، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار ، وابن آدم لا يقدر على ذلك{[52254]} .
قوله : { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } قال الزمخشري : هذا تعجّبٌ{[52255]} آخرُ من أمر آخرَ ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله : { أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر ، ويدل عليه قوله في أول «ص » : { وعجبوا أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ ص : 4 ] وقال : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] فذكر تعجبهم من أمرين . قال ابن الخطيب : والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ، لأن هناك ذكر : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } وقال ههنا : إنَّ { هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } ، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ، ثم قالوا : «أَئِذَا متْنَا » ، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب ، وهو قولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار .
فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك : { هذا شيء عجيب } يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله : { وعجبوا أن جاءهم } فقوله : { هذا شيء عجيب } ليس تكراراً ! .
نقول : ذلك ليس بتكرار ، بل هو تقرير ؛ لأنه لما قال : بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله ( تعالى{[52256]} ) : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ويقال في العرف : لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ ، فقالوا : هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه ؟ ! ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا : { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } بحرف الفاء وقال في «ص » : { وقال الكافرون هذا ساحر } بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم ، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم ، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا : هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه ؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } بلفظ الإشارة إلى البعيد . قوله : «هذا ساحر » إشارة إلى الحاضر القريب فيَنْبَغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهَذَا ، وهذا لا يصحُّ إلا على قولنا{[52257]} .
قوله : «أَئِذَا مِتْنَا » قرأ العامَّة بالاستفهام ؛ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر والأعْمش والأعْرج بهمزة واحدة{[52258]} فيحتمل الاستفهام كالجمهور . وإنما حذف الأداة للدلالة ، ويحتمل الإخبار بذلك{[52259]} ، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنُبْعَثُ أو أنَرْجِعُ إِذا مِتْنَا{[52260]} . وجواب «إذا » على قراءة الخبر محذوف أي رَجَعْنَا . وقيل قوله : «ذَلِكَ رَجْعٌ » على حذف الفاء ، وهذا رأي بعضهم{[52261]} . والجمهور لا يجوز ذلك إلاَّ في شعر{[52262]} ( وقال الزمخشري ) {[52263]} : ويجوز أن يكون الرَّجْعُ بمعنى المرجوع وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على «ما » على هذا التفسير حَسَنٌ .
فإن قيل : فما ناصب الظرف إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المرجوع ؟ .
فالجواب : ما دلّ عليه المُنْذِر من المُنْذَرِ به وهو البَعْثُ{[52264]} .
قال ابن الخطيب : «ذلك » إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار ، وقوله : هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان{[52265]} نقول : المجيء والجائي كل واحد حاضراً{[52266]} وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن المنذر به كان جازماً على{[52267]} الحاضر ، فقالوا فيه ذلك{[52268]} . والرجوع مصدر رَجَعَ إذا كان متعدياً والرجوعُ مصدر إذا كان لازماً وكذلك الرُّجعى مصدر عند لُزُومه . والرجوع أيضاً يصحّ مصدراً للاَّزم فيحتمل أن يكون المراد بقوله : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } أي رجوعٌ بعيد ، ويحتمل أن يكون المراد : الرّجْعَى{[52269]} المتعدِّي ، ويدل على الأول قوله تعالى : { إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى } [ العلق : 8 ] وعلى الثاني قوله تعالى : { أَئنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة } [ النازعات : 10 ] أي مرجوعون ؛ فإنه من الرجوع المتعدي .
فإن قلنا : هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه{[52270]} .
قال المفسرون : تقديره : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً نُبْعَثُ ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه : «ذَلِكَ رَجْعٌ » أي رد إلى الحياة «بَعِيدٌ » غير كائن أي يَبْعُدُ أنْ نُبْعَثَ بعد الموت .