فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ} (3)

{ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } «بل » للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال ، و «أن » في موضع نصب على تقدير : لأن جاءهم . والمعنى : بل عجب الكفار لأن جاءهم منذر منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكتفوا بمجرّد الشك والردّ ، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، وقيل : هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيداً ، وقد تقدم تفسير هذا في سورة { ص } . ثم فسّر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله : { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْء عَجِيبٌ } وفيه زيادة تصريح وإيضاح . قال قتادة : عجبهم أن دعوا إلى إله واحد ، وقيل : تعجبهم من البعث ، فيكون لفظ { هذا } إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من قوله : { أَءذَا مِتْنَا } إلخ ، والأوّل أولى . قال الرازي : الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر .

ثم قالوا : { أَءذَا مِتْنَا } وأيضاً قد وجد هاهنا بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب ، وهو قولهم : { ذَلِكَ رَجْع بَعِيدٌ } فإنه استبعاد وهو كالتعجب ، فلو كان التعجب بقولهم : { هذا شَيْء عَجِيبٌ } عائداً إلى قولهم : { أءذا } لكان كالتكرار ، فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيء المنذر ، فإن تعجبهم منه علم من قولهم : وعجبوا أن جاءهم ، فقوله : { هذا شَيْء عَجِيبٌ } يكون تكراراً ، فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير لأنه لما قال : { بل عجبوا } بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ويقال في العرف : لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتعجبكم ، فقالوا : { هذا شَيْء عَجِيبٌ } فكيف لا نعجب منه ، ويدلّ على ذلك قوله هاهنا : { فَقَالَ الكافرون } بالفاء ، فإنها تدلّ على أنه مترتب على ما تقدّم ، قرأ الجمهور { أئذا متنا } بالاستفهام . وقرأ ابن عامر في رواية عنه ، وأبو جعفر والأعمش والأعرج ، بهمزة واحدة ، فيحتمل الاستفهام كقراءة الجمهور ، وهمزة الاستفهام مقدّرة ، ويحتمل أن معناه الإخبار . والعامل في الظرف مقدّر : أي أيبعثنا ، أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه ، هذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية ، فجواب «إذا » محذوف : أي رجعنا ، وقيل : ذلك رجع ، والمعنى : استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم تراباً . ثم جزموا باستبعادهم للبعث ، فقالوا : { ذلك } أي للبعث { رَجْع بَعِيدٌ } أي بعيد عن العقول أو الأفهام أو العادة أو الإمكان ، يقال : رجعته أرجعه رجعاً ورجع هو يرجع رجوعاً .

/خ15