والمرعى يخرج في أول أمره خضرا ، ثم يذوي فإذا هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . . ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) . . والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى .
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود ؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار العريض الجميل . والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا .
أخرج المرعى : أنبت العشب رطبا غضا .
فجعله غثاء : يابسا هشيما من بعد كالغثاء ، والغثاء ما يحمله السيل من البالي من ورق الشجر مخالطا زبده .
4 ، 5- والذي أخرج المرعى* فجعله غثاء أحوى .
هو الذي أخرج النبات والبرسيم ، والحب والزيتون والنخل ، وكل هذه مرعى للحيوان أو الإنسان أو الطيور أو الزواحف أو غير ذلك ، فالذرة إذا كانت صغيرة فهي مرعى للحيوان ، وإذا كانت حبا فهي مرعى للإنسان ، وقد أودع الله في الأرض أرزاقها ليتم إعمار هذا الكون ورعايته وحفظه .
فجعله يابسا جافا ، وأحوى . أسود يضرب إلى الخضرة .
إن حركة النبات عند بروزه صغيرا كأنه أطفال صغار ، ثم نموّه واخضراره وازدهاره ، ثم اصفراره ونهايته ، كل هذا يذكّر الإنسان بحياته التي تمر بالطفولة إلى الشباب ، ثم إلى الكهولة والموت ، فلكل بداية نهاية ، وكذلك الدنيا .
قال تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا . ( الكهف : 45 ) .
والمقصود من الآيات بيان دلائل القدرة ، وأنواع النعم التي يغمرنا الله بها ، وتستحق النظر والتأمل وتسبيح العلي القدير .
غُثاء : يابسا مسودّا . والغثاء : ما يحمله السيل من الحشائش والأوراق التي لا قيمة لها . يقال غثا الوادي يغثو غثُوّاً كثُرَ فيه الغثاء .
أحوى : ما يُحيل لونَه إلى السواد .
أي صيَّره يابسا جافا بعد الخضرة والنضارة . وفي هذا عبرة لذوي العقول ، فكما أن النبات يبدأ أخضر زاهيا ثم يَميل إلى الجفاف والسواد ، فكذلك الحياةُ الدنيا زائلة فانية ، والآخرة هي الباقية .
ولما كان إيباسه وتسويده بعد اخضراره {[72842]}ونموه{[72843]} في غاية الدلالة على تمام القدرة وكمال الاختيار بمعاقبة الأضداد على الذات الواحدة قال تعالى : { فجعله } أي بعد أطوار من زمن إخراجه { غثاء } أي كثيراً ، ثم أنهاه فأيبسه وهشمه ومزقه فجمع السيل بعضه إلى بعض فجعله زبداً وهالكاً وبالياً وفتاتاً على وجه-{[72844]} الأرض { أحوى * } أي في غاية الري حتى صار أسود يضرب إلى خضرة ، أو أحمر يضرب إلى سواد ، أو اشتدت خضرته فصارت تضرب إلى سواد ، وقال القزاز رحمه الله في ديوانه : الحوة شية من شيات الخيل ، وهى بين الدهمة والكمتة ، وكثر هذا حتى سموا كل أسود أحوى - انتهى . فيجوز أن يريد حينئذ أنه أسود من شدة يبسه فحوته الرياح وجمعته من كل أوب حيت تفتت ، فكل من الكلمتين فيها حياة وموت ، وأخر الثانية لتحملهما{[72845]} لأن دلالتها على الخضرة أتم ، فلو قدمت لم تصرف إلى غيرها ، فدل جمعه بين الأضداد على الذات الواحدة على كمال الاختيار ، وأما الطبائع فليس لها من {[72846]}التأثير الذي{[72847]} أقامها سبحانه فيه إلا الإيجابي كالنار متى أصابت شيئاً أحرقته ، ولا تقدر بعد ذلك أن تنقله إلى صفة أخرى غير التي{[72848]} أثرتها فيه ، وأشار بالبداية والنهاية إلى تذكر ذلك ، وأنه على سبيل التكرار في كل عام الدال على بعث الخلائق ، وخص المرعى لأنه أدل على البعث لأنه مما ينبته الناس ، وإذا انتهى تهشم وتفتت وصار تراباً ، ثم يعيده سبحانه بالماء على ما كان عليه سواء-{[72849]} كما يفعل بالأموات سواء - من غير فرق أصلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.