ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين ، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه ، مع التلميح إلى اطمئنانهم لأيمانهم ، وثقتهم بهداهم ، وبأن الكافرين في ضلال مبين .
( قل : هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا . فستعلمون من هو في ضلال مبين ) . .
وذكر صفة( الرحمن )هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه ؛ فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون .
ويوجه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن . صلة الإيمان ( آمنا به ) . . وصلة التوكل ( وعليه توكلنا ) . . عليه وحده . . والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن . والله - سبحانه - هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى ، ويوجهه إلى هذا الإعلان . وكأنما ليقول له : لا تخف مما يقوله الكفار . فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إلي . وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة ، وهذا المقام ! فقل لهم . . . وهذا ود من الله وتكريم . .
ثم ذلك التهديد الملفوف : ( فستعلمون من هو في ضلال مبين ) . . وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ؛ ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين ! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية : ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? )وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا ، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم . وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس . .
قل هو الرحمان آمنّا به وعليه توكّلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين .
قل لهم يا محمد : الله ربنا ، وهو الرحمان يشملنا برحمته وعنايته وفضله ، وقد توكلنا عليه واعتمدنا ، اما أنتم فستعلمون غدا من الواقع في الضلال المبين .
والآية أيضا لا تصرّح لهم بأنهم ضالون كافرون ، آثمون بعبادة الأصنام وترك عبادة الرحمان ، بل تترك لهم مجالا للتفكير وعدم العناد .
فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه ، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ، وهو أن يقولوا : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن ، والأعمال الباطنة والظاهرة ، ولما كانت الأعمال ، وجودها وكمالها ، متوقفة على التوكل ، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال ، وإلا فهو داخل في الإيمان ، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه ، وهي الحال التي تتعين للفلاح ، وتتوقف عليها السعادة ، وحالة أعدائه بضدها ، فلا إيمان [ لهم ] ولا توكل ، علم بذلك من هو على هدى ، ومن هو في ضلال مبين .
ولما كان لا يقدر على التعميم بالنعمة{[67150]} إلا من كان عام {[67151]}القدرة والنعمة{[67152]} والرحمة ، وكان التذكير بالنعم أشد استعطافاً ، صرف القول إلى التعبير بما هو صريح في ذلك ، فقال مذكراً بذلك لعلمهم بأنه لا نعمة عليهم إلا منه ، واعترافهم بذلك ليحذروه ويتذكروا{[67153]} عموم قدرته ، فيعلموا قدرته{[67154]} على البعث فينفصل النزاع ، { قل } يا خير الخلق : { هو } أي الله وحده { الرحمن } أي الشامل الرحمة لكل ما تناولته الربوبية ، فلا يليق بعقل{[67155]} عاقل أن يدع أحداً من خلقه في ظلم ظالمه فلا يأخذ له بحقه ، لأن ذلك لا يرضاه أقل {[67156]}الناس لنفسه{[67157]} مع عجزه ، فكيف بمن هو كامل القدرة ، وإلا لما قدر{[67158]} على عموم الرحمة { آمنا به } أي أنا ومن آمن بي لهذا البرهان القاطع ، بأنه لا يكافئه شيء ، فهو كاف في الإيمان به . { وعليه } أي وحده { توكلنا } لأنه لا شيء في يد غيره ، وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته ، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه ، لأنه الفاعل بالذات{[67159]} ، المستجمع لما يليق به من الصفات ، فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره ، وقد أقررنا له بهذه{[67160]} العبارة على وجه الحصر بالألوهية والربوبية فلا نحتج {[67161]}في السلوك{[67162]} إليه إلى معوق عن ذكره والتفكر في آلائه ولو كان المعوق نفيساً في ظاهر الحياة الدنيا ولو كان{[67163]} مخوفاً فإنه{[67164]} لا خوف معه سبحانه ، فالتوكل {[67165]}عليه منجاة{[67166]} من كل هلكة مجلبة لكل ملكة ، ولم يفعل كما تفعلون أنتم في توكلكم على رجالكم وجاهكم وأموالكم .
ولما أبان هذا{[67167]} طريق الصواب ، وجلى كل ارتياب ، وكان لا بد من الرجوع إليه والانقلاب ، لإتمام الرحمة بالثواب والعقاب ، سبب عنه قوله : { فستعلمون } أي عند{[67168]} التجلي عليكم بصفة{[67169]} القهر عما قليل بوعد لا خلف فيه { من هو } أي منا ومنكم متداع بذاته ظاهراً وباطناً { في ضلال } أي{[67170]} أخذ في غير{[67171]} مسلك موصل إلى مقصد محيط به الضلال ، بحيث إنه لا قدرة له على الانفكاك منه ، إلا إن أطاع من يجره بيده فيخرجه منه . ولما كان الشيء إذا كان فيه نوع لبس كان ربما اقتضى قبول العذر قال : { مبين * } أي بين في نفسه ، موضح لكل أحد أنه لا خفاء به .