في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي :

( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وهو العزيز الحكيم ) . .

قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون - في الأعم الأغلب - وروي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال : " إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب " . . وقيل : إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم ، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم .

وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم : إنهم " جوييم " باللغة العبرية أي أمميون . نسبة إلى الأمم - بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم ! - والنسبة في العربية إلى المفرد . . أمة . . أميون . وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة .

ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم ، فيجمعهم بعد فرقة ، وينصرهم بعد هزيمة ، ويعزهم بعد ذل . وكانوا يستفتحون بهذا على العرب ، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير .

ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب ، من الأميين غير اليهود ؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية - كما سيجيء في المقطع التالي في السورة - وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف . وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل !

وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل . . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم ) . .

كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب ، ومن وراء القرون ، محفوظة عند الله لا تضيع ، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله ، وفق حكمته ؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسيقه ، وحتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء ، ولا يستأخر عن موعده المرسوم .

وتحققت هذه الدعوة - وفق قدر الله وتدبيره - بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم . . ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . كما قال إبراهيم ! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم : ( إنك أنت العزيز الحكيم )هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا : ( وهو العزيز الحكيم ) .

وقد سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن نفسه فقال : " دعوة أبي إبراهيم . وبشرى عيسى . ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " .

( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .

والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين ؛ وليرسل فيهم رسولا منهم ، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم ؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم ، وتغيير ما بهم ، وتمييزهم على العالمين . .

( ويزكيهم ) . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تطهير للضمير والشعور ، وتطهير للعمل والسلوك ، وتطهير للحياة الزوجية ، وتطهير للحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد ؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح ، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ، ويتعامل مع الملأ الأعلى ؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .

( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل كتاب . ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور ، ويحسنون التقدير ، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير .

( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . . ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ليكرهاه في المهاجرين من المسلمين ، ويشوها موقفهم عنده ، فيخرجهم من ضيافته وجيرته . . فقال جعفر :

" أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ؛ وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " . .

ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها ، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح ؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة ؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر ، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات ، ومن ثم لم تستقيم أبدا بعد ذلك ، لا في حياة موسى عليه السلام ، ولا من بعده . حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه ، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة .

وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية ، ومن انحلال الحضارة في الامبراطوريات الكبيرة ، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب ! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول :

" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى . لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال ؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية ، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله ، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . .

وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي . وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاما وظلاما !

وقد اختار الله - سبحانه - تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين ، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء . فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

1

المفردات :

الأمين : العرب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم ، أو الذين لا يقرأون ولا يكتبون .

رسولا منهم : رسولا أميّا مثلهم .

يزكّيهم : يطهرهم من أدناس الجاهلية .

الكتاب : القرآن .

الحكمة : السنّة ، وتطلق الحكمة أيضا على حسن التصرف في الأمور .

لفي ضلال مبين : بُعد واضح عن الحق والحكمة ، لجاهليتهم التي كانوا عليها .

التفسير :

2- { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .

إنها لمنّة عظيمة أن يختار الله الزمان ، والمكان ، والأمّة ، والرسول :

فالزمان : القرن السادس الميلاديّ .

والمكان : بلاد العرب .

والأمة : أمة أمية لا تعرف الحساب ، أناجيلهم في صدورهم ، ومع ذلك فهم أهل بلاغة وفصاحة ، ولَسَن بالفطرة ، نبغ فيهم الشعراء والبلغاء والخطباء مع أمِّيتهم .

والرسول : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أرسل الله فيهم رسولا منهم ، أمّيا مثلهم ، وأنزل عليه كتابا سماويا خالدا معجزا .

فكان الرسول الأميّ يقرأ عليهم القرآن من الذاكرة ، ويعلِّمهم الكتاب : وهو القرآن ، وأحكامه وآدابه .

وَالْحِكْمَةَ : وهي السنة المطهرة ، وفيها هدى السماء وتوجيه النبوة .

وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .

كانوا في بُعد ظاهر عن الحق ، حيث عبدوا الأوثان والأصنام ، وقتلوا البنات صغيرات ، أو أمسكوهنّ على الذلّ كبيرات ، وكانوا في عدوان دائم على بعضهم البعض ، وفي حروب مستمرة ، فحسبك بهذا النبي الأميّ الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وعلمهم آيات القرآن وآدابه وأحكامه وحكمه ، فصاروا بالإسلام خير أمة أخرجت للناس ، والحكمة من ذلك ظاهرة ، هي ألا يظنّ أحد أ محمدا تعلّم القرآن من دراسة كتب السابقين .

قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } . ( العنكبوت : 48-49 ) .

ومن الحكمة أيضا : أن يكون في الأمة الأمية رسول أمّي مثلهم ، هو أعلم بحالهم ، وأخبر بما يناسبهم ، فكان صبورا عليهم ، يبطئ في إلقاء الكلام حتى يستطيع السامع أ يَعدّه عدّا ، وربما كرر الجملة ثلاثا حتى تُفهم عنه .

فكان الإعجاز والإبهار ظاهرا ، أن تجد كتابا معجزا مشتملا على أخبار السابقين ، وعلوم اللاحقين ، وأحكام الشريعة والدين ، وقوانين علمية لم يدرك الكون إعجازها إلا في القرون المتأخرة ، مما يدل على أن محمدا النبي الأميّ لم يكن يدرك بشخصه هذه المعلومات ، وإنما هي تنزيل رب العالمين .

ومن هذا الإعجاز الإخبار عن أمم بائدة ، كعاد وثمود ، وعن أمور مستقبلة في عالم الغيب ، كهزيمة الروم أمام الفرس ، ثم الانتصار عليهم في بضع سنين ، ومثل تكوين الجنين في بطن أمه ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم هيكلا عظيما ، ثم كسو العظام لحما ، ولم يدرك ذلك إلاّ من عشرات السنين ، فأنّى لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي ولد في القرن السادس من ميلاد المسيح ، النبي الأميّ ، أنّى له – لو كان بشرا عاديا – أن يتكلم عن خلق الكون ، وخلق السماء والأرض ، وقصة آدم وقصص الرسل ، وأن يصوِِّب أخطاء وقعت في التوراة والإنجيل ، وأنى له – لو كان بشرا عاديا – أن يتكلم عن موضوعات علمية دقيقة متعددة في القرآن الكريم .

مثل حركة الأرض حول نفسها ، وحركتها أمام الشمس ، وحركة الشمس ، وحركة القمر ، والفضاء والهواء ، وأخبار عن الماء والمحيطات ، والأنهار والنبات ، وبدء الخليقة ، ونهاية الكون وما يحدث فيه ، بأسلوب علمي رائع ، وكلما تقدم العلم فإنه يؤيد ما في هذا الكتاب .

وصدق الله العظيم إذ يقول :

{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } . ( فصلت : 53 ) .

ويقول البوصيري :

كفاك بالعلم في الأميّ معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

لقد شاء الله أن يكون يتيما أميّا لتظهر المعجزة ، وليدرك الناس أن الذي علّم الأمي مَلَك هو جبريل عليه السلام .

قال تعالى : { علّمه شديد القُوى } . ( النجم : 5 ) .

وقال سبحانه وتعالى : { والنجم إذا هوى*ما ضلّ صاحبكم وما غوى*وما ينطق عن الهوى*إن هو إلاّ وحي يوحى } . ( النجم : 1-4 ) .

ولقد زكّى القرآن الأمة العربية وطهّرها ، وأمدّها بمقومات القوة والطهارة ، فحملت دين الله من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وامتدت الفتوحات الإسلامية إلى بلاد الفرس والروم ، وأفريقيا وآسيا وسائر المعمورة ، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بجهد هذا النبي الأمي ، الذي أرسله الله إلى العرب وجعله رحمة للعالمين ، فدخل في هذا الدين العجم ، وهم كل من آمن بالرسول من غير العرب ، وكان الإسلام رسالة عالمية ، ويحمل الفكرة إلى كل أمة ، ويتقبّل من أهلها من يصبحون قدوة وأعلاما ، فرأينا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالا الحبشي ، وسلمان الفارسي ، وصهيبا الرومي .

واتسع صدر الإسلام لكل ثقافة أصيلة ، في الفقه والحديث والتشريع واللغة والأدب ، وكان علماء فارس والروم يقدمون خبرتهم ، وينالون كل تكريم من الشعوب التي تحيط بهم ، ومن الأمراء والخلفاء .

وفي الحديث الشريف : " ليت العربية لأحدكم باب ولا أم ، ولكن العربية اللسان ، من تكلّم العربية فهو عربي " .

وقال تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . . }( التوبة : 33 ) .

وقال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيرا ونذيرا . . . }( سبأ : 28 ) .

وقال صلى الله عليه وسلم : " أُعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأُحلت لي الغنائم ، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأُعطيت الشفاعة ، وأُرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " vi .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

الأُميون : هم العرب ، لأنهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نسبة قليلة منهم .

يزكيهم : يطهّرهم من الشرك .

والله تعالى هو الذي أرسلَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون ، كي يتلو عليهم القرآن ، ويزكّيهم بالأخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان ، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب . . وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الإسلام وتحت راية القرآن .

{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

وأي ضلالٍ أكبر من عبادة الأصنام وإتيان الفواحش ، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا إليه :

« أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجِوار ، ويأكل القويُّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحّده ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرَنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وحُسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكْل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمَرَنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين } يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ { رسولاً منهم } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه نسبهم . { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.

ابن جرير الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه والاتباع له.

ابن العربي: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: التفكر في أمر الله عز وجل والاتباع له. وقال ابن وهب: سمعته يقول: هو الفقه في دين الله تعالى، والعمل به.

القاضي عياض: قال مالك، إنما الحكمة مسحة مَلَك على قلب العبد. وقال أيضا: الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد. وقال أيضا: يقع لقلبي أن الحكمة، الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: الله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، فقوله هو كناية من اسم الله، والأميون: هم العرب... عن قتادة" هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ "قال: كان هذا الحيّ من العرب أمة أمّيّة، ليس فيها كتاب يقرؤونه، فبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة وهُدى يهديهم به...

وقال جلّ ثناؤه "رَسُولاً مِنْهُمْ" يعني من الأميين، وإنما قال منهم، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أمّيّا، وظهر من العرب.

وقوله: "يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ" يقول جلّ ثناؤه: يقرأ على هؤلاء الأميين آيات الله التي أنزلها عليه "وَيُزَكّيهِمْ" يقول: ويطهرهم من دنس الكفر.

وقوله: "وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ" يقول: ويعلمهم كتاب الله، وما فيه من أمر الله ونهيه، وشرائع دينه "وَالْحكْمَةَ" يعني بالحكمة: السنن...

وقوله: "وَإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" يقول تعالى ذكره: وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم في جَوْر عن قصد السبيل، وأخذ على غير هدى "مُبِين" يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجَوْر عن الحقّ وطريق الرشد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

المعنى من ذلك كله، والله أعلم، أن الله بعث رسوله أميا في قوم أميين، لا يعلمون الحكمة وماهيتها، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته، لأنه إذا كان أميا، لا يكتب، ولا يقرأ الكتب، ثم أتاهم بالكتاب مؤلفا منظوما يوافق كتب أهل الكتاب، دل أنه إنما علم ذلك بالوحي، وأنه لم يختلقه من عند نفسه...

{بعث في الأميين رسولا منهم} معناه أنه بعث صلى الله عليه وسلم في قوم أميين، لا يعرفون عبادة الله، ولا يقرؤون الكتاب، بل كانت عبادتهم عبادة الأصنام.

وقيل: سماهم أميين لأنهم لا يقرؤون عن الكتاب، ولا يكتبون على الأعم الأغلب، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ، ويكتب، ومن هذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم أميا لأنه كان لا يكتب، ولا يقرأ عن كتاب، ولم يعلم ذلك. قال الله تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48]...

الأمي، هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، ولم يتعلم، ويكون على ما سقط من أمه، فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه، لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري عليها المولود. ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته بحيث يعلم أنه ما اخترع من ذات نفسه، إذ لم يعرف الكتابة والقراءة، ولا اختلف إلى أحد ليتعلم منه. ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه لحسن نظمه وتأليفه ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة...

{يتلوا عليهم آياته} الآيات: الأعلام؛ فكأنه يقول: يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته، وتظهر نبوته. أو يجوز أن تكون الآيات الحلال والحرام وما أشبههما، أو الآيات: الحجج التي يستظهر بها الحق...

. {ويزكيهم} ....

...يصلحهم؛ يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أزكياء أتقياء. ويجوز أن يكون معنى قوله: {ويزكيهم} أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال والأفعال...

{ويعلمهم الكتاب والحكمة}...

معنى الكتاب والحكمة واحد...الكتاب ما يتلى من الآيات نصا، والحكمة ما أودع فيها من المعاني... {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي إنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بيّن ظاهر، لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام، ليس عندهم كتاب، ولا يعرفون الحكمة.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

وأما وجه الحكمة في جعل النبوة في أمّيِّ فإنه ليوافق ما تقدمت به البشارة في كتب الأنبياء السالفة، ولأنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة؛ فهذان وجهان من الدلالة في كونه أمّياً على صحة النبوة. ومع أن حاله مشاكلة لحال الأمّة الذين بُعث فيهم وذلك أقرب إلى مساواته لو كان ذلك ممكناً فيه، فدلّ عجزهم عما أتى به على مساواته لهم في هذا الوجه على أنه من قِبَلِ الله عز وجل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم...

ثم أظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية، وذلك في قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{هو} أي وحده {الذي بعث} أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه {في الأميين} أي العرب لأنهم كانوا معروفين من بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم...

. {رسولاً} ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال: {منهم} بل الأمية بمعنى عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة، وأنوار الحقائق عليه لائحة ....

... {يتلوا} أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة {عليهم} مع كونه أمياً مثلهم {آياته} أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء...

{ويزكيهم} أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة...

. {ويعلمهم الكتاب} أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى و الأخرى {والحكمة} وهي غاية الكتاب في قوة فهمه والعمل به، فهي العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه...

. {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} أي كوناً هو كالجبلة لهم. ولما كان كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام {لفي ضلال} أي بعد عن المقصود {مبين} أي ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء...

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول، وأجملها في أمور:

(1) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ، لئلا يكون هناك مطعن في نبوته...

(2) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله...

(3) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة: أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين؛ وليرسل فيهم رسولا منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم...

(ويزكيهم).. وإنها لتزكية...

.تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك ....

... إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع...

. (ويعلمهم الكتاب والحكمة).. يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل كتاب. ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور، ويحسنون التقدير...

(وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).. ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ليكرهاه في المهاجرين من المسلمين، ويشوها موقفهم عنده، فيخرجهم من ضيافته وجيرته.. فقال جعفر: "أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام"..

وقد اختار الله -سبحانه- تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء. فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمراد بالأميين: العرب لأن وصف الأميّة غالب على الأمة العربية يومئذٍ...

ووصف الرسول ب {منهم}، أي لم يكن غريباً عنهم... وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم، فإن كون رسول القوم منهم نعمةٌ زائدة على نعمة الإِرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} [البقرة: 129]...

فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإِرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم ويحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم... وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أي هو مع كونه أمّياً قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرّسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئاً، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى... وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجس المعنوي وهو الشرك، وما يعْلق به من مساوئ الأعمال والطباع. وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تُبيّن لهم مقاصده ومعانيه... وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة... أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإِشراك بالله...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ولا بد من لفت النظر إلى حكمة يتضمنها قوله تعالى هنا: {ويزكيهم ويعلمهم}، فقد جاء اللفظ الدال على التزكية "ويزكيهم " مقدما، بينما اللفظ الدال على التعليم " ويعلمهم " جاء مؤخرا، والسر في ذلك –والله أعلم- أن الإسلام يهتم بتربية النفس وتهذيب الأخلاق في الدرجة الأولى، ويهتم بتثقيف العقل وتوسيع معلوماته في الدرجة الثانية، بحيث إذا خيّر الإنسان بين علم واسع مع خلق فاسد، وعلم محدود مع خلق فاضل، كانت الأولوية لمكارم الأخلاق ولو مع قليل من العلم، لا لكثرة العلم مع فساد الأخلاق، إذْ فساد الأخلاق يضيع ثمرة العلم، ويجعل صاحبه أخطر من الجاهل بالمرة. وقوله تعالى هنا: {الكتاب والحكمة}، إشارة إلى ما أكرم الله به هذه الأمة، فقد آتاها (الكتاب)، وبالكتاب أخرجها من " الأمية"، كما آتاها (الحكمة)، وبالحكمة أخرجها من " الجاهلية".

وقوله تعالى: {رسولا منهم}، امتنان خاص على العرب، فبفضل رسول الله وخاتم رسله أصبحت الأمة العربية ذات مكانة خاصة بين الأمم، وبفضل الإسلام الذي كان العرب أول من حمل لواءه قام العرب بدور بارز في تاريخ الإنسانية يغبطهم عليه أكثر الأمم، وبفضل القرآن الكريم الذي نزل " بلسان عربي مبين " أصبحت اللغة العربية لغة الدين والعلم والحضارة في دنيا الإسلام الواسعة.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ} ليستمعوا إليها ويتفهموها...

. {وَيُزَكِّيهِمْ} بالنفاذ إلى أعماق مشاعرهم ليطهرها من كل الرواسب العفنة التي عششت فيها من خلال عصور التخلف، ومن كل الوحول الفكرية التي تجمعت في داخلها... {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} في ما يمثله الكتاب من المضمون الفكري والشرعي والمنهجي على صعيد النظرية الإسلامية العامة، وفي ما توحي به كلمة الحكمة من تحريك المضمون في خط التطبيق العملي، بحيث يتحول الإنسان إلى شخصٍ يفكر بواقعية وحكمةٍ، فيزن الأمور بموازينها، ويضع الأشياء في مواضعها...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

قوله تعالى : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " قال ابن عباس : الأميون العرب كلهم ، من كتب منهم ومن لم يكتب ؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب . وقيل : الأميون الذين لا يكتبون . وكذلك كانت قريش . وروى منصور عن إبراهيم قال : الأمي الذي يقرأ ولا يكتب . وقد مضى في " البقرة{[14956]} " . " رسولا منهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه . قال ابن إسحاق : إلا حي تغلب ، فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة . وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم . قال الماوردي : فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء . الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم . الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .

قلت : وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته .

قوله تعالى : " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن " ويزكيهم " أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، قاله ابن عباس . وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ، قاله ابن جريج ومقاتل . وقال السدي : يأخذ زكاة أموالهم " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " السنة ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : " الكتاب " الخط بالقلم ؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط . وقال مالك بن أنس : " الحكمة " الفقه في الدين . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " . " وإن كانوا من قبل " أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم . " لفي ضلال مبين " أي في ذهاب عن الحق .


[14956]:راجع جـ 2 ص 5 وص 136.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله{[65208]} على التنزيه أدل على القدرة على غيره ، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا ، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله : { هو } أي وحده { الذي بعث } أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه { في الأميين } أي العرب لأنهم كانوا معروفين من{[65209]} بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم ، وذكر ظرف البعث وإهمال غايته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق ، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه{[65210]} صلى الله عليه وسلم كان حين ذهب العلم من الناس ، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم ، فلا بدع أن يحمل{[65211]} عليهم وصفهم { رسولاً } ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال : { منهم{[65212]} } بل الأمية بمعنى{[65213]} عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب{[65214]} ، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة ، وأنوار الحقائق عليه لائحة ، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن منشأ مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم{[65215]} ، فيكون عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز ، وذكر بعثه{[65216]} منهم إن خص الوصف بالعرب لا ينفي بعثه{[65217]} إلى غيرهم ولا سيما مع ما ورد فيه من الصرائح وأثبته من الدلائل القواطع{[65218]} ، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها : إلى عامة الخلق .

ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم{[65219]} وإن زاد فبشيء يسير ، عجب{[65220]} من أمره ونبه{[65221]} على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً : { يتلوا } أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة { عليهم } مع كونه أمياً مثلهم { آياته } أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما{[65222]} خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء .

ولما كان المقام للتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك ، قدم التزكية فقال{[65223]} : { ويزكيهم } أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة ، فكانت{[65224]} تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليهم ، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه الله بها ، وربما سرت تلك النظرة إلى ثان فأشرقت أنوارها عليه على حسب القابليات كما وقع لعمير بن وهب ثم صفوان بن أمية وكذا ذو النور{[65225]} الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه ثم قومه ، فأما عمير فكان من أعظم المؤذين{[65226]} للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن آمن به فتذاكر مع صفوان وقعة بدر في الحجر ومن فقدوا من صناديدهم وأنه ليس في العيش بعدهم خير ، ثم تمنوا رجلاً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمير : لولا فقري وبنات لي وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي لأتيته بغلة{[65227]} أسيري عندهم فقتلته ، فاغتنمها صفوان فعاهده أن يكفي عياله إن مات وأن يواسيه إن عاش ، فقال : اكتم عني ثلاثاً ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهداه الله فحلف صفوان أن لا يكلمه أبداً ، فلما فتحت مكة فر صفوان ليركب البحر من جدة ، فاستأذن عمير النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إليه فلحقه فلم يزل به حتى رجع ثم أسلم فكان{[65228]} من خيار الصحابة رضي الله عنه ، وأما ذو النور فحين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم سأل آية يعينه الله بها على قومه فآتاه الله نوراً حين أشرف على الحي الذي هو منه ، ثم دعا أباه وأمه فأسلما ، ثم صاحبته فكذلك ثم قومه ، فما تخلف منهم أحد ، وأما غير الصحابة رضي الله عنهم فتزكيته لهم بآثاره بحسب القابليات والأمور التي قضى الله أن يكون مهيأ ، {[65229]}فمن كان{[65230]} له أعشق كان لاتباعه ألزم ، فكان في كتاب الله وسنته أرسخ من سيرة وغيرها علماً وعملاً فكان{[65231]} أشد زكاء{[65232]} .

ولما كانوا بعد التزكية التي هي تخلية عن الرذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال : { ويعلمهم الكتاب } أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى و{[65233]}الأخرى { والحكمة } وهي غاية الكتاب{[65234]} في قوة فهمه والعمل به ، فهي العلم{[65235]} المزين بالعمل والعمل{[65236]} المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل ، فيكون مثلهم{[65237]} كمثل الحمار {[65238]}يحمل أسفاراً{[65239]} ولو{[65240]} لم يكن له صلى الله عليه وسلم معجزة{[65241]} إلا هذه لكانت غاية .

ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال ، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين ، وكانوا{[65242]} بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال{[65243]} من حضرة غيب الغيب في العلوم المنافية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة من الأمم قبلهم ، وكان ذلك موجباً للتوقف{[65244]} في كونهم كانوا أميين ، أكد هذا المفهوم بقوله : { وإن } أي والحال أنهم { كانوا } أي كوناً هو كالجبلة لهم . ولما كان{[65245]} كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل{[65246]} عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام { لفي ضلال } أي بعد عن المقصود { مبين * } أي ظاهر في نفسه مناد لغيره{[65247]} أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم {[65248]}من يميل{[65249]} إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره ، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من {[65250]}مخلوق عن نبيهم إعظاماً {[65251]}لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى ، وينقذهم{[65252]} مما كانوا فيه من العمى والردى .


[65208]:- زيد من ظ وم.
[65209]:- من م، وفي الأصل وظ: أنهم.
[65210]:- من ظ وم، وفي الأصل: بعثته.
[65211]:- من ظ وم، وفي الأصل: يحملهم.
[65212]:- زيد في الأصل: أي، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[65213]:- زيد من ظ وم.
[65214]:- من ظ وم، وفي الأصل: مصلب.
[65215]:- من ظ وم، وفي الأصل: أهلكهم.
[65216]:- زيد من ظ وم.
[65217]:- من م، وفي الأصل وظ: معه.
[65218]:- من ظ وم، وفي الأصل: القوامع.
[65219]:- زيد من ظ وم.
[65220]:- من ظ وم، وفي الأصل: عجيب.
[65221]:- من ظ وم، وفي الأصل: نوع.
[65222]:- من م، وفي الأصل وظ: وكانت.
[65223]:- زيد من ظ وم.
[65224]:-من م، وفي الأصل وظ: وكانت.
[65225]:- من ظ وم، وفي الأصل: ذو النون.
[65226]:- من م، وفي الأصل وظ: الموذنين.
[65227]:- من ظ وم، وفي الأصل: لعله.
[65228]:- من ظ وم، وفي الأصل: فكانا.
[65229]:- من م، وفي الأصل وظ: فكان.
[65230]:- من م، وفي الأصل وظ: فكان.
[65231]:- من ظ وم، وفي الأصل: فكانوا.
[65232]:- من ظ وم، وفي الأصل: زكاة.
[65233]:- زيد في الأصل: في، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[65234]:- زيد في الأصل: في قوله، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[65235]:- من ظ وم، وفي الأصل: العمل.
[65236]:- زيد من ظ وم.
[65237]:- من ظ وم، وفي الأصل: مثل.
[65238]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[65239]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[65240]:-زيد من ظ وم.
[65241]:-زيد من ظ وم.
[65242]:- من ظ وم، وفي الأصل: كان.
[65243]:- من ظ وم، وفي الأصل: الإضلال.
[65244]:- من ظ وم، وفي الأصل: للوقف.
[65245]:- من ظ وم، وفي الأصل: كانوا.
[65246]:- من ظ وم، وفي الأصل: إبراهيم.
[65247]:- من ظ وم، وفي الأصل: لغيرهم.
[65248]:- من ظ وم، وفي الأصل: عن ميل.
[65249]:- من ظ وم، وفي الأصل: عن ميل.
[65250]:- من ظ وم، وفي الأصل: عن.
[65251]:- زيد في الأصل وظ: له، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[65252]:- من ظ وم، وفي الأصل: ينقيدهم.