ثم يرسم مشهدا لجهنم هذه ، وهي تستقبل الذين كفروا في غيظ وحنق شديد :
( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . تكاد تميز من الغيظ ! ) . .
وجهنم هنا مخلوقة حية ، تكظم غيظها ، فترتفع أنفاسها في شهيق وتفور ؛ ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ الكظيم وهي تنطوي على بغض وكره يبلغ إلى حد الغيظ والحنق على الكافرين !
والتعبير في ظاهره يبدو مجازا تصويريا لحالة جهنم . ولكنه - فيما نحس - يقرر حقيقة . فكل خليقة من خلائق الله حية ذات روح من نوعها . وكل خليقة تعرف ربها وتسبح بحمده ؛ وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه ، وتتغيظ لهذا الجحود المنكر الذي تنكره فطرتها وتنفر منه روحها . وهذه الحقيقة وردت في القرآن في مواضع شتى تشعر بأنها تقرر حقيقة مكنونة في كل شيء في هذا الوجود .
فقد جاء بصريح العبارة في القرآن : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وورد كذلك : ( يا جبال أوبي معه والطير ) . . وهي تعبيرات صريحة مباشرة لا مجال فيها للتأويل .
كذلك ورد( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض : ائتيا طوعا أو كرها قالتا : أتينا طائعين ) . . مما يحتمل أن يقال فيه إنه مجاز تصويري لحقيقة خضوع السماء والأرض لناموس الله . ولكن هذا التأويل لا ضرورة له . بل هو أبعد من المعنى المباشر الصريح .
ووردت صفة جهنم هذه . كما ورد في موضع آخر تعبير عن دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها : ( لقد جئتم شيئا إدا . تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) . .
وكل هذه النصوص تشير إلى حقيقة ، حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه ، وتسبيح كل شيء بحمده . ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر ، ويشذ عن هذا الموكب ؛ وتحفز هذه الخلائق للانقضاض على الإنسان في غيظ وحنق ؛ كالذي يطعن في عزيز عليه كريم على نفسه ، فيغتاظ ويحنق ، ويكاد من الغيظ يتمزق . كما هو حال جهنم وهي : ( تفور . تكاد تميز من الغيظ ! ) .
كذلك نلمح هذه الظاهرة في خزنة جهنم :
( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها . ألم يأتكم نذير ? ) . .
وواضح أن هذا السؤال في هذا الموضع هو للتأنيب والترذيل . فهي مشاركة لجهنم في الغيظ والحنق . كما هي مشاركة لها في التعذيب ، وليس أمر من الترذيل والتأنيب للضائق المكروب !
خزنتها : واحدها خازن ، وهم مالك وأعوانه .
نذير : رسول ينذركم بأس الله وشديد عقابه .
8- تكاد تميّز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير .
تكاد جهنم تتقطع من الغيظ والغضب والرغبة في الانتقام ممن كفر بالله ، وجحد رسالات السماء ، وكلما ألقي في جهنم جماعة لينالوا العذاب توجّهت إليهم الزبانية بالسؤال الآتي :
ألم يأتكم رسول ينذركم مثل هذا العذاب ؟ وهو سؤال توبيخ وتحقير وإيلام ، وفي نفس الوقت إلزام الكافر بالحجّة ، واعترافه بأنه يستحق النار عدلا من الله تعالى .
{ وهي تفور تكاد تميز من الغيظ } : أي تغلي تكاد تتقطع من الغيظ غضباً على الكفار .
{ سألهم خزنتها } : سؤال توبيخ وتقريع وتأنيب .
{ ألم يأتكم نذير } : أي رسول ينذركم عذاب الله يوم القيامة ؟ .
{ تكاد تميز } أي تقرب أن تتقطع من الغيظ الذي هو شدة الغضب وغضبها من غضب الرب مالكها لما غضب الجبار غضبت لغضبه ، وكل مؤمن بالله عارف به يغضب لما يغضب له ربه ويرضى به ربه . وقوله تعالى { كلما ألقي فيها فوج } أي جماعة { سألهم خزنتها } أي الملائكة الموكلون بالنار وعذابها وهم الزبانية وعددهم تسعة عشر ملكاً سألوهم سؤال توبيخ وتقريع لأنهم يعلمون ما يسألونهم عنه { ألم يأتكم نذير } أي رسول في الدنيا يدعوكم إلى الإيمان والطاعة ؟ .
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي : تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا ، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار ، فما ظنك ما تفعل بهم ، إذا حصلوا فيها ؟ " ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها فقال : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ؟ أي : حالكم هذا واستحقاقكم النار ، كأنكم لم تخبروا عنها ، ولم تحذركم النذر منها .
ولما وصفها بالفوران ، بين سببه تمثيلاً لشدة{[66838]} اشتعالها عليهم فقال : { تكاد تميز } أي تقرب من{[66839]} أن ينفصل بعضها من بعض ، كما يقال : يكاد فلان ينشق من غيظه ، وفلان غضب فطارت شقه منه في الأرض وشقه في السماء - كناية عن شدة الغضب { من الغيظ } أي عليهم ، كأنه حذف إحدى التائين إشارة إلى أنه يحصل منها{[66840]} افتراق واتصال على وجه من السرعة ، لا يكاد يدرك حق الإدراك ، وذلك كله لغضب سيدها . وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام ، لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به ، وهي شدة الغيظ . تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة{[66841]} جميعاً وتحطم أهل المحشر ، فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، يقابلها بنوره فترجع ، مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر به{[66842]} أن يقتلع الأرض وما عليها من الجبال و{[66843]}يصعد بها في{[66844]} الجو فعل من غير كلفة ، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخة كما رواه الجماعة إلا الترمذي وهذا لفظ أبي داود{[66845]} عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر صلاته إلى أن قال : ثم نفخ في آخر سجوده . فقال : أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم {[66846]}وأنا فيهم{[66847]} وهم يستغفرون " وفي رواية النسائي أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : " لقد أدنيت مني النار حتى جعلت ألفتها خشية أن تغشاكم " .
ولما ذكر سبحانه حالها ، أتبعه حالهم في تعذيب القلب باعتقادهم أنهم ظلمة على وجه ، بين السبب في عذابهم زجراً عنه فقال : { كلما } ولما{[66848]} كان المنكىء مجرد الإلقاء بني للمفعول ، دلالة على ذلك وعلى حقارتهم بسهولة إلقائهم قوله{[66849]} : { ألقي فيها } أي{[66850]} جهنم بدفع الزبانية بهم الذين هم أغيظ عليهم من النار ، { فوج } أي جماعة هم في غاية الإسراع موجفين مضطربي الأجواف من شدة السوق{[66851]} { سألهم } أي ذلك الفوج { خزنتها } أي{[66852]} النار سؤال توبيخ وتقريع وإرجاف .
ولما كان كأنه قيل : ما كان سؤالهم ؟ قال : قالوا موبخين لهم مبكتين محتجين عليهم في استحقاقهم العذاب ، زيادة في عذابهم بتعذيب أرواحهم بعد تعذيب أشباحهم : { ألم يأتكم } أي في الدنيا { نذير * } أي يخوفكم هذا العقاب ويذكركم بما حل بكم ، وبما حل ممن{[66853]} قبلكم من المثلاث ، لتكذيبهم بالآيات ، ويقرأ عليكم الكتب المنزلات .