كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته ، ولا في روحه ، ولا في خصائصه . فهو( متشابه )وهو( مثاني )تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه ، ويعيشون في حذر وخشية ، وفي تطلع ورجاء ، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش ، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ؛ ثم تهدأ نفوسهم ، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ، فتكاد تشخص فيها الحركات .
( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) . .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال :
( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال ، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .
متشابها : يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن والإحكام .
مثاني : واحدها مثنى ، وهي التثنية أي : التكرار .
تقشعر : ترتعد وتضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد .
تلين : تسكن وتطمئن عند ذكر آيات الرحمة .
23- { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد } .
عن ابن عباس : أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حِسان ، وبأخبار الدّهر ، فنزلت هذه الآية .
الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن من السماء ، فهو سبحانه الذي أنزله ، فنعم الذي أنزل ، ونعم الكتاب المنزّل ، فهو أحسن الحديث ، حيث أنزله مشتملا على دلائل التوحيد والوعظ والإرشاد ، والقصص وأخبار الأولين ، والتشريع والآداب ، وأخبار البعث والحساب ، والصراط والميزان ، والجنة والنار .
{ متشابها } : يشبه بعضه بعضا في إحكامه وسمو بيانه ، ودقة بنيانه ، وليس فيه خلل ولا ضعف ولا اضطراب ، ولا ركاكة أسلوب ، بل كلّه يشبه بعضه بعضا في قوّته وجزالته ، وإحكامه وسمو معانيه .
{ مثاني } . يثنى ويكرر في قصصه وأخباره ووعظه ووعده ووعيده ، لحكمة إلهية يقتضيها السياق ، وتحتاج إليه الخلائق ، مع الجزالة والإعجاز ، ولا تُملّ إعادته ، بل كلما تكرر حلا ، فهو يأتي بمناسبة جديدة في كل قصة ، وتوضع القصة في سياق مناسب .
قال تعالى : { ص والقرآن ذي الذكر } . ( ص : 1 )
وقال تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } . ( الزخرف : 44 ) .
وهذا الكتاب إذا سمعه المؤمنون ، وأصغى إليه المتقون ، وتأمّله الذاكرون ؛ وجلت قلوبهم ، واقشعرت جلودهم من خشية الله تعالى ومخافته ، حيث ترتعش القلوب ، وتبكي العيون من خوف العذاب والوعيد ، ومن خوف غضب الله وعقابه .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . . . }
فمن هيبة القرآن وجلاله ، إذا سمع المتقون قوارع آياته ووعيده : أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم ، وإذا سمعوا وصف الجنة ونعيمها ، ورحمة الله واتساعها ، وآيات الرجاء من فضل الله ، ومحبته لتوبة العباد ؛ تبدل خوفهم إلى رجاء ، وخشيتهم إلى رغبة في فضل الله .
قال تعالى : { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . }
فما أصدق هذه القلوب ، وما أيسر هذه الشفافية والاستجابة لآيات الله ، حيث نجد الخوف والبكاء والأنين عند آيات الوعيد ، ونجد الأمل والانشراح والرجاء عند آيات الرحمة والوعد وذكر الجنان والنعيم .
قال الزجاج : { إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله } .
{ متشابها } : يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ، ويصدّق بعضه بعضا ، ليس فيه تناقض ولا اختلاف .
وقال قتادة : يشبه بعضه بعضا من الآي والحروف ، وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه ، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وإن كان أعم وأعجز .
ثم وصفه فقال : { مثاني } . تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام ويثنى للتلاوة فلا يملّ .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . . . }
تضطر وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد .
{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . }
أي : عند آية الرحمة ، وقيل : إلى العمل بكتاب الله والتصديق به ، وقيل { إلى ذكر الله } . يعني الإسلام .
قال زيد بن أسلم : قرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحاب فرقّوا : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اغتنموا الدعاء عند الرّقة فإنها رحمة " {[593]}
وعن العباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتساقط عن الشجرة البالية ورقها " {[594]}
{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . . . }
ذلك الكتاب هداية الله لعباده ، أو هذا الفضل والتوفيق ، والخوف من الوعيد ، والرجاء والأمل في الرحمة ، هداية السماء يهدي بها الله من يشاء من المتقين .
{ ومن يضلل الله فما له من هاد } .
ومن قسا قلبه وأعرض عن الله تعالى سُلب الهداية والتوفيق ، وعاش في الضلال بسبب الإصرار والعناد ، وهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا .
1- قلب قابل للهداية ، تحلُّ فيه هداية السماء ، وفيه الرقة والرحمة والخشوع والإيمان .
2- قلب غير قابل للهداية ، وفيه القسوة والصلابة ، والإعراض عن ذكر الله ، والكفر بهدى السماء .
{ ومن يضلل الله فما له من هاد } .
أي : من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم ، منافيا لقبول هداية الله ، { فما له من هاد } . فلن يستطيع أحد هدايته ، أو يؤثر فيه حتى يهتدى . ا ه .
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } . ( الحشر : 21 ) .
{ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . } .
يصف الله المؤمنين بأنهم يلزمون الأدب عند سماع القرآن ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله ، لم يكونوا يتصارخون ، بل عندهم الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك .
تلا – قتادة – رحمه الله – هذه الآية فقال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله عز وجل ، بأنهم تقشعر جلودهم ، وتبكي عيونهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان . {[595]}
متشابها : متناسقا ، يشبه بعضه بعضا في نَسَقه وأسلوبه .
مثاني : جمع مثنى : يتكرر المعنى بعدة أساليب .
تقشعرّ : تخشع وترتعد من الرهبة .
الله نزل أحسن الحديث كتاباً متناسقا لا اختلاف في معانيه وألفاظه ، وهو في الذروة في الإعجاز والمواعظ والأحكام ، تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهدة ، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، بل تُعاد في تناسق على أصول ثابتة متشابهة لا تصادم فيها . فإذا تليت آياته اقشعرّت جلود الذين يخشَون ربهم ، ووجلت قلوبهم ، ثم تلين جلودهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ذلك الكتاب هدى الله يهدي به من يشاء ، ومن يضلله الله فليس له من يهديه .
الأولى- قوله تعالى : " الله نزل أحسن الحديث " يعني القرآن لما قال : " فيتبعون أحسنه " [ الزمر : 18 ] بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن . قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل : " الله نزل أحسن الحديث " فقالوا : لو قصصت علينا فنزل : " نحن نقص عليك أحسن القصص " [ يوسف : 3 ] فقالوا : لو ذكرتنا فنزل : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " [ الحديد : 16 ] الآية . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له : حدثنا فنزلت . والحديث ما يحدث به المحدث . وسمي القرآن حديثا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به أصحابه وقومه ، وهو كقوله : " فبأي حديث بعده يؤمنون " [ المرسلات : 50 ] وقوله : " أفمن هذا الحديث تعجبون " [ النجم : 59 ] وقوله : " إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " [ الكهف : 6 ] وقوله : " ومن أصدق من الله حديثا " [ النساء : 87 ] وقوله : " فذرني ومن يكذب بهذا الحديث " [ القلم : 44 ] قال القشيري : وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم ؛ لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله : " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقد قالوا : إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو ، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى . " كتابا " نصب على البدل من " أحسن الحديث " ويحتمل أن يكون حالا منه . " متشابها " يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا ، ليس فيه تناقض ولا اختلاف . وقال قتادة : يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف . وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه ؛ لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز . " مثاني " تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثني للتلاوة فلا يمل . " تقشعر " تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد . " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " أي عند آية الرحمة . وقيل : إلى العمل بكتاب الله والتصديق به . وقيل : " إلى ذكر الله " يعني الإسلام .
الثانية- وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم . قيل لها : فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه . فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي : مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط . فقال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط . ثم قال : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عمر بن عبد العزيز : ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن ، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق . وقال أبو عمران الجوني : وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه ، فأوحى الله إلى موسى : قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين ، يشرح لي عن قلبه .
الثالثة- وقال زيد بن أسلم : ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) . وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ) . وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة ، أما تجد إلا قشعريرة ؟ قلت : بلى . قالت : فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب . وعن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي . قالوا : ومن أين تعلم ذلك ؟ قال : إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي . يقال : اقشعر جلد الرجل اقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم ، لأنها زائدة . يقال أخذته قشعريرة . قال امرؤ القيس :
فبتُّ أكابِدُ ليلَ التِّمَا *** مِ والقلبُ من خشيةٍ مُقْشَعِرُّ
وقيل : إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة ، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته ، اقشعرت الجلود منه إعظاما له ، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه ، وهو كقوله تعالى : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " [ الحشر : 21 ] فالتصدع قريب من الاقشعرار ، والخشوع قريب من قوله : " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه . " ذلك هدى الله " أي القرآن هدى الله . وقيل : أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله . " ومن يضلل الله فما له من هاد " أي من خذله فلا مرشد له . وهو يرد على القدرية وغيرهم . وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله . ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله : " هاد " في الموضعين بالياء ، الباقون بغير ياء .