يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم :
( نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . .
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم ، بمصدر هذه القوة ، بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا - وهم في حالة الضعف والقلة - إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته . كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة ، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . . فهم لا يعجزون الله بقوتهم ، وهو خلقهم وأعطاهم إياها . وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم . . فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته . .
ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ؛ وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين . . كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة ، المغترين بقوة أسرهم ، ليذكروا نعمة الله ، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها ؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة . وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة .
شددنا أسرهم : أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق .
بدلنا أمثالهم : أهلكناهم ، وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق .
10- نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلا .
أي : نحن لا غيرنا ، خلقنا الناس جميعا من العدم ، ومنحناهم الحياة والقوة والسمع والبصر ، وأحكمنا خلقهم .
أحكمنا خلقهم وربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق ، حتى كانوا أقوياء أشداء ، فكم في خلق الإنسان من عجائب ، أضف إلى ذلك جمال الخلق ، والتركيب والإبداع ، وتيسير الحركة ، واستخدام آلاته ، كاليدين والرجلين والأذنين ، والعينين والفم والأنف ، والأعضاء التناسلية ، وسائر القوى الموجودة بالإنسان فضلا عن العقل والمخ والأعصاب ، والفهم والذكاء والاستنباط .
قال تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . ( الذاريات : 21 ) .
وقال تعالى : يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم* الذي خلقك فسوّاك فعدلك* في أي صورة ما شاء ركّبك . ( الانفطار : 6-8 ) .
وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلا .
ولو أردنا لأهلكناهم وأوجدنا بدلهم خلقا آخر أطوع وأعبد لله منهم ، وقد وردت الآية مورد التهديد والوعيد .
وقريب من ذلك قوله تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز . ( فاطر : 15-17 ) .
{ 28 } ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي ، وهو دليل الابتداء ، فقال : { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي : أوجدناهم من العدم ، { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } أي : أحكمنا خلقتهم بالأعصاب ، والعروق ، والأوتار ، والقوى الظاهرة والباطنة ، حتى تم الجسم واستكمل ، وتمكن من كل ما يريده ، فالذي أوجدهم على هذه الحالة ، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم ، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار ، لا يليق به أن يتركهم سدى ، لا يؤمرون ، ولا ينهون ، ولا يثابون ، ولا يعاقبون ، ولهذا قال : { بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا } أي : أنشأناكم للبعث نشأة أخرى ، وأعدناكم بأعيانكم ، وهم بأنفسهم أمثالهم .
{ نحن خلقناهم وشددنا } قوينا وأحكمنا { أسرهم } قال مجاهد وقتادة ومقاتل : { أسرهم } أي : خلقهم ، يقال : رجل حسن الأسر ، أي : الخلق . وقال الحسن : يعني أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والعصب . وروي عن مجاهد في تفسير الأسر قال : الفرج ، يعني : موضع في البول والغائط ، إذا خرج الأذى تقبضا . { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } أي : إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم .
ولما كان تركهم لليوم{[70779]} الثقيل على وجه التكذيب الذي هو أقبح الترك ، وكان تكذيبهم لاعتقادهم عدم القدرة عليه{[70780]} قال دالاً على الإعادة بالابتداء من باب الأولى : { نحن خلقناهم } ، بما لنا من العظمة لا غيرنا { وشددنا أسرهم } أي قوينا وأتقنا{[70781]} ربط مفاصلهم الظاهرة والباطنة بالأعصاب على وجه الإحكام بعد كونهم نطفة أمشاجاً{[70782]} في غاية الضعف ، وأصل الأسر ، القد يشد به الأقتاب أو الربط والتوثيق ، ولا شك أن من قدر على إنشاء شخص من نطفة قادر على أن يعيده كما كان لأن-{[70783]} جسده الذي أنشأه إن كان محفوظاً فالأمر فيه واضح ، وإن كان قد صار تراباً فإبداعه منه مثل إبداعه من النطفة ، وأكثر ما فيه أن يكون كأبيه{[70784]} آدم عليه السلام بل هو أولى فإنه ترابه له أصل في الحياة بما كان حياً ، وتراب آدم عليه السلام لم يكن له أصل قط في الحياة-{[70785]} والإعادة أهون في مجاري عادات{[70786]} الخلق من الابتداء ، و-{[70787]} لذلك قال معبراً بأداة التحقق : { وإذا شئنا } أي بما لنا من العظمة أن نبدل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم { بدلنا أمثالهم } أي بعد الموت في الخلقة وشدة الأسر { تبديلاً * } أو{[70788]} المعنى : جئنا بأمثالهم بدلاً منهم وخلائف لهم ، أو يكون المراد - وهو أقعد - بالمثل الشخص أي بدلنا أشخاصهم لتصير بعد القوة إلى ضعف وبعد الطول إلى قصر وبعد البياض إلى سواد وغير ذلك من الصفات كما شوهد في بعض الأوقات في المسخ وغيره ، وكل ذلك دال على تمام قدرتنا وشمول علمنا .