فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا ، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن - كما حدث في بعض الحالات - عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام ، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين :
( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا )ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق :
( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب .
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها ؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف ؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة ، وربطها كلها بمحور الإيمان ؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض . وتبقى شارة واحدة تميز الناس . . شارة الحزب الذي ينتمون إليه . . وهما حزبان اثنان : حزب الله وحزب الشيطان . .
فعاقبتم : فكانت العقبى لكم ، أي : الغلبة والنصر حتى غنمتم منهم .
11- { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
إذا لحقت امرأة أحد المسلمين بدار الكفار ، ثم يسّر الله للمسلمين النصر على الكفار والغلبة عليهم ، والحصول على الغنائم ، فإن المسلم الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفار ، يُعوّض بما يوازي مهرها من الغنيمة قبل أن تُقسّم .
ومن معنى الآية : أن تكون هناك مقاصّة ومعاوضة ، فالزوجة المرتدة يُعوّض زوجه بمهرها من أسرتها ، أو من زوجها المشرك ، كما يعطي لزوج المسلمة المهاجرة مهر زوجته ، حتى لا يجتمع عليه خسران زوجته ، وخسران المال الذي دفعه لها .
روى بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي المهر للذي ذهبت زوجته إلى الكفار من الغنيمة قبل أن تُقسّم ، ولا ينقص من حقّه شيئا .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
إن من لوازم الإيمان تقوى الرحمن ، فراقبوا الله تعالى الذي آمنتم به ، والتزموا بتنفيذ أحكامه ، واتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وراقبوه والتزموا بطاعته وتقواه .
والتقوى هي : الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار : إن ذهبت إحدى زوجاتكم إلى الكفار . فعاقبتم : فظفرتم وكانت العقبى لكم يعني النصر .
إن ذهبت زوجةٌ من زوجاتكم إلى الكفار مرتدةً عن دينها ، ولم يردّوا إلى زوجِها المهرَ الذي دفعه ، ثم حاربتموهم ، فأَعطوا الذين ذهبت زوجاتُهم مثلَ ما أنفقوا ، وذلك من الغنائم التي تكسبونها من الكفار .
{ واتقوا الله الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } امتثلوا أوامره ، وتقيدوا بأحكامه إن كنتم صادقين في إيمانكم .
وقوله : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات ، { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين ، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه ، لزم أن يعطيه فعلى المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق{[1062]} .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله ، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام .
فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين على نسائهم ، فأنزل الله عز وجل :{ وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من أزواجكم إلى الكفار } فلحقن بهم مرتدات ، { فعاقبتم } قال المفسرون : معناه غنمتم ، أي : غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة ، وقيل ظهرتم ، وكانت العاقبة لكم . وقيل : أصبتموهم ، في القتال بعقوبة حتى غنمتم . قرأ حميد الأعرج " فعقّبتم " بالتشديد . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مجاهد : عاقبتم أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عاقب وعقب وعقب ، وأعقب وتعقب وتعاقب واعتقب : إذا غنم . وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة ، { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار منكم ، { مثل ما أنفقوا } عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام ، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فكلهن رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، كان واجباً أو مندوباً ؟ . وأصله أن الصلح هل كان وقع على رد النساء ؟ فيه قولان : أحدهما أنه وقع على رد النساء والرجال جميعاً ، لما روينا : أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فعلى هذه كان رد المهر واجباً . والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء ، لأنه روي عن علي : أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة عقلها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً . واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار ؟ . فقال قوم : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة ، وقال قوم : هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا .
الأولى- قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } في الخبر : أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها . فكتبوا إليهم : أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا ، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به ، فأنزل الله عز وجل : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض . قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا . وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة . وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد . وقالا : ومعنى " فعاقبتم " فاقتصصتم . " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني الصدقات . فهي عامة في جميع الكفار . وقال قتادة أيضا : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين{[14913]} بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . ثم نسخ هذا في سورة " التوبة " . وقال الزهري : انقطع هذا عام الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا . حكاه القشيري .
الثانية- قوله تعالى : " فعاقبتم " قراءة العامة " فعاقبتم " وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج " فعقبتم " مشددة . وقرأ مجاهد " فأعقبتم " وقال : صنعتم كما صنعوا بكم . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة " فعقبتم " بكسر القاف خفيفة . وقال : غنمتم . وكلها لغات بمعنى واحد . يقال : عاقب وعَقَب وعَقَّب وأعقب وتَعَقّب واعتقب وتعاقب إذا غنم . وقال القتبي " فعاقبتم " فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو . وقال ابن بحر : أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين .
الثالثة- قوله تعالى : { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } قال ابن عباس : يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم ، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : يعطي من مال الفيء . وعنه يعطى من صدق من لحق بنا . وقيل : أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم . قال الأعمش : هي منسوخة . وقال عطاء : بل حكمها ثابت . وقد تقدم جميع هذا . القشيري : والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري{[14914]} . وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما هاجر عمر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبدالعزى ، كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب ، وشهبة بنت غيلان ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله } احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .
ولما كان المظنون بالكفار عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات ، قال مداوياً لذلك الداء{[64692]} : { وإن فاتكم } أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد{[64693]} الحرب { شيء } أي قل أو كثر { من أزواجكم } أي من أنفسهن أو مهورهن { إلى } أي متحيزاً أو واصلاً{[64694]} إلى { الكفار } فعجزتم عنه { فعاقبتم } أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم{[64695]} من أزواج{[64696]} الكفار فجاءت نوبة{[64697]} ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً ، { فآتوا } أي فاحضروا{[64698]} وأعطوا من مهر المهاجرة ، { الذين ذهبت أزواجهم } أي{[64699]} منكم إن اختاروا الأخذ ، { مثل ما أنفقوا } على الكافرة الفائتة إلى{[64700]} الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدفعوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما{[64701]} كنتم تعطونه{[64702]} لأزواج المهاجرات ، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار .
ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس{[64703]} فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً و{[64704]}تارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال : { واتقوا } أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك{[64705]} { الله } الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون ، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر{[64706]} ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ {[64707]}في الإيمان{[64708]} : { الذي أنتم به } أي خاصة { مؤمنون * } أي متمكنون في رتبة الإيمان .
قوله : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني إن ذهبت امرأة من أزواج المسلمين إلى المشركين مفارقة زوجها المسلم ، رد المسلمون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليه من الغنيمة التي يغنمها المسلمون من الكافرين . وهو قوله : { فعاقبتم } أي أصبتم من الغنيمة من المشركين { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني أعطوهم مهور أمثالهن .
قال ابن عباس في ذلك : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمّس . وعنه أيضا : أنهن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة .
قوله : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } أي خافوا الله الذي أنتم به مصدقون فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه{[4519]} .