( والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها ) . .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر
ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
دحاها : بسطها وأوسعها لسكنى أهلها .
خلق الله الأرض في يومين ، وخلق الجبال والبحار والأنهار في يومين ، ثم خلق السماء في يومين ، واستمر التحسين والإبداع والتكامل في خلق الكون ، فمرّ الخلق بعدة مراحل :
- ثم مرحلة تكامل الخلق وصلاحيته للوجود ، فالسماء شمّاء عالية ، ملساء مستوية ، بها النجوم والشموس والأقمار والملائكة والإبداع ، والأرض بها البحار والنهار والنبات ، والجبال والإنسان والحيوان ، والحشرات والهوام ، ومن إبداع الخلق دحو الأرض ، وجعلها مستديرة منبعجة عند خط الاستواء ، مفرطحة عند القطبين .
وقد استجاب الكون لقدرة القدير ، فخلق السماء والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، والكون كله دائر بين الخلق والجعل .
قال تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور . . . ( الأنعام : 1 ) .
قال تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم . ( فصلت : 9-12 ) .
{ والأرض بعد ذلك } بعد خلق السماء { دحاها } بسطها ، والدحو : البسط . قال ابن عباس : خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك . وقيل : معناه : والأرض مع ذلك دحاها ، كقوله عز وجل : { عتل بعد ذلك زنيم }( القلم- 13 ) ، أي مع ذلك . { أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم . }
" والأرض بعد ذلك دحاها " أي بسطها . وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء . وقد مضى القول فيه في أول " البقرة " {[15787]} عند قوله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء " [ البقرة : 29 ] مستوفى .
والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته . ويقال لعش النعامة أُدحِي ؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض . وقال أمية بن أبي الصلت :
وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها *** فهم قُطَّانُهَا حتى التنادِي{[15788]}
دحاها فلما رآها استوت *** على الماءِ أرْسَى عليها الجِبَالاَ
وقيل : دحاها سواها ، ومنه قول زيد بن عمرو :
وأسلمتُ وَجْهِي لمن أسلمتْ *** له الأرض تحمل صَخْراً ثِقَالاَ
دحاها فلما استوت شدَّها *** بأيدٍ وأرسَى عليها الجِبالاَ
وعن ابن عباس : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت . وذكر بعض أهل العلم أن " بعد " في موضع " مع " كأنه قال : والأرض مع ذلك دحاها ، كما قال تعالى : " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم : 13 ] . ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق ، قال الشاعر :
فقلت لها عنِّي إليكِ فإنني *** حرامٌ وإني بعد ذاك لَبيبُ
أي مع ذلك لبيب . وقيل : بعد : بمعنى قبل ، كقوله تعالى : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " [ الأنبياء : 105 ] أي من قبل الفرقان ، قال أبو خراش الهذلي :
حَمَدْتُ إلهِي بعد عروة إذ نجا *** خِرَاشٌ وبعضُ الشَّرِّ أهونُ من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة . وقيل : " دحاها " : حرثها وشقها . قال ابن زيد . وقيل : دحاها مهدها للأقوات . والمعنى متقارب وقراءة العامة " والأرض " بالنصب ، أي دحا الأرض . وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون " والأرض " بالرفع ، على الابتداء ؛ لرجوع الهاء . ويقال : دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا ، كقولهم : طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي ، ومحا يمحو ويمحي ، ولحى العود يلحى ويلحو ، فمن قال : يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت .
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف ، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر ، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال : { والأرض } ولما كان المراد استغراق{[71520]} الزمان باستمرار الدحو{[71521]} ، حذف الخافض فقال : { بعد ذلك } أي المذكور كله { دحاها } أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.