الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ} (30)

" والأرض بعد ذلك دحاها " أي بسطها . وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء . وقد مضى القول فيه في أول " البقرة " {[15787]} عند قوله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء " [ البقرة : 29 ] مستوفى .

والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته . ويقال لعش النعامة أُدحِي ؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض . وقال أمية بن أبي الصلت :

وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها *** فهم قُطَّانُهَا حتى التنادِي{[15788]}

وأنشد المبرد :

دحاها فلما رآها استوت *** على الماءِ أرْسَى عليها الجِبَالاَ

وقيل : دحاها سواها ، ومنه قول زيد بن عمرو :

وأسلمتُ وَجْهِي لمن أسلمتْ *** له الأرض تحمل صَخْراً ثِقَالاَ

دحاها فلما استوت شدَّها *** بأيدٍ وأرسَى عليها الجِبالاَ

وعن ابن عباس : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت . وذكر بعض أهل العلم أن " بعد " في موضع " مع " كأنه قال : والأرض مع ذلك دحاها ، كما قال تعالى : " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم : 13 ] . ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق ، قال الشاعر :

فقلت لها عنِّي إليكِ فإنني *** حرامٌ وإني بعد ذاك لَبيبُ

أي مع ذلك لبيب . وقيل : بعد : بمعنى قبل ، كقوله تعالى : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " [ الأنبياء : 105 ] أي من قبل الفرقان ، قال أبو خراش الهذلي :

حَمَدْتُ إلهِي بعد عروة إذ نجا *** خِرَاشٌ وبعضُ الشَّرِّ أهونُ من بعض

وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة . وقيل : " دحاها " : حرثها وشقها . قال ابن زيد . وقيل : دحاها مهدها للأقوات . والمعنى متقارب وقراءة العامة " والأرض " بالنصب ، أي دحا الأرض . وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون " والأرض " بالرفع ، على الابتداء ؛ لرجوع الهاء . ويقال : دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا ، كقولهم : طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي ، ومحا يمحو ويمحي ، ولحى العود يلحى ويلحو ، فمن قال : يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت .


[15787]:راجع جـ 1 ص 255.
[15788]:مضى هذا البيت في جـ 15 ص 210 بلفظ: سكانها. والمعنى واحد.