وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول وهو الماء :
( قل : أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ? ) . .
والماء الغور : الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه . والمعين : النابع الفائض المتدفق . وهي لمسة قريبة في حياتهم ، إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه . . والملك بيد الله وهو على كل شيء قدير . فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب !
ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن الله بوقوع هذا المحذور !
وهكذا تنتهي هذه السورة ، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات ، وهذه الرحلات والجولات . في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف . وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا . أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب ، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب .
إنها سورة ضخمة . سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها . وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد ، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد !
وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة ؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة ، وحقيقة الهيمنة المطلقة . وحقيقة الإبتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء . وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله . وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى . وحقيقة مصدر الرزق . وحقيقة حفظ الله للخلائق ، وحضوره سبحانه - مع كل مخلوق . . . وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه . وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود . هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله . مع ربه . ومع نفسه . ومع الناس . ومع الأحياء . ومع الكون كله من أحياء وأشياء . والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه ، واستقباله للحياة . . .
غورا : غائرا ، ذاهبا في الأرض لا ينال .
بماء معين : جار ، أو ظاهر سهل التناول ، أو تراه العيون لجريانه على الأرض .
قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .
هنا تصريح بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، والآية تلمس قلوبهم فتقول : أخبروني ، إن ذهب ماؤكم بعيدا في الأرض ، لا تستطيع الدلاء أن تنقله إليكم ، هل هناك أحد غير الله يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر تراه العين ؟ فمن فضل الله أن أجرى الماء للناس ، يستفيدون به في الزراعة والشرب ونواحي الحياة المتعددة .
قال تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي . . . ( الأنبياء : 30 ) .
وقال سبحانه وتعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أن نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون . ( الواقعة : 68 -70 ) .
وبذلك تختم سورة الملك ، سورة أرست دعائم الإيمان بالله الخالق ، وحقيقة الابتلاء والرزق ، والعلم المطلق ، والسر والنجوى ، سورة تبين أن الكون كله في قبضة الله ، وفيها منهج حياة المؤمن مع ربه ومع نفسه ومع الناس .
خلاصة ما اشتملت عليه سورة الملك
2-بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف .
3-وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة .
4-التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك .
ii الله والعلم الحديث ، للأستاذ عبد الرزاق نوفل ، ص57 .
iii بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزبادي 1/473 .
iv رواه أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما ، وانظر الترغيب والترهيب .
v إن العبد إذا وضع في القبر وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع :
رواه البخاري في الجنائز ( 1338 ، 1374 ) ومسلم في الجنة ( 2870 ) وأبو داود في الجنائز ( 3231 ) وفي السنة ( 4751 ) والنسائي في الجنائز ( 2049 ) وأحمد في مسنده ( 11862 ) من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ) . وأحمد في مسنده ( 8358 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا ) . ورواه أبو داود في السنة ( 4753 ) من حديث البراء .
vi والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم :
رواه البخاري في المغازي ( 3976 ) من حديث أبي طلحة أن انبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( فلان ابن فلان ) ويا فلان ابن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . قال : فقال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) . قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندما . ورواه البخاري في الجنائز ( 1370 ) وفي المغازي ( 4026 ) من حديث ابن عمر قال : اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال : ( وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ؟ فقيل له : تدعو أمواتا ؟ فقال : ( ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2873 ) من حديث أنس كنت مع عمر ( ح ) وحدثنا شيبان بن فروخ واللفظ له حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال : فجعلت أقول لعمر أما تراه ، فجعل لا يراه ، قال : يقول عمر : سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : ( هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله ) : قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال : ( يا فلان ابن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا ) ؟ قال عمر : يا رسول الله ، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2875 ) من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : ( يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ ) فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا ، قال : ( والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ) ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر .
vii لن يهلك الناس حتى يعذروا :
رواه أبو داود في الملاحم ( 4347 ) وأحمد في مسنده ( 17835 ) من حديث أبي البختري قال : أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول- وقال سليمان : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم ) .
viii مختصر تفسير ابن كثير ، بتحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد 3 ، ص528 .
ix تتمة الحديث : ( سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ) .
x مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم :
رواه البخاري في الأدب ( 6011 ) ، ومسلم في البر والآداب ( 2586 ) ، وأحمد ( 17632 ، 17648 ) ، من حديث النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) .
ثم أخبر عن انفراده بالنعم ، خصوصًا ، بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي : غائرًا { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } تشربون منه ، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم ؟ وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى .
تمت ولله الحمد{[1186]} .
{ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } أي : غائراً ذاهباً في الأرض ، لا تناله الأيدي والدلاء . قال الكلبي ومقاتل : يعني ماء زمزم ، { فمن يأتيكم بماء معين } ظاهر تراه العيون ، وتناله الأيدي والدلاء . وقال عن ابن عباس : معين أي جار .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو الحسن الفارسي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد ، حدثنا أبو يحيى البزاز ، حدثنا محمد ابن يحيى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن ابن عباس الجشمي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك " .