في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول وهو الماء :

( قل : أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ? ) . .

والماء الغور : الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه . والمعين : النابع الفائض المتدفق . وهي لمسة قريبة في حياتهم ، إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه . . والملك بيد الله وهو على كل شيء قدير . فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب !

ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن الله بوقوع هذا المحذور !

ختام السورة:

وهكذا تنتهي هذه السورة ، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات ، وهذه الرحلات والجولات . في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف . وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا . أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب ، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب .

إنها سورة ضخمة . سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها . وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد ، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد !

وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة ؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة ، وحقيقة الهيمنة المطلقة . وحقيقة الإبتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء . وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله . وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى . وحقيقة مصدر الرزق . وحقيقة حفظ الله للخلائق ، وحضوره سبحانه - مع كل مخلوق . . . وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه . وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود . هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله . مع ربه . ومع نفسه . ومع الناس . ومع الأحياء . ومع الكون كله من أحياء وأشياء . والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه ، واستقباله للحياة . . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

28

غورا : غائرا ، ذاهبا في الأرض لا ينال .

بماء معين : جار ، أو ظاهر سهل التناول ، أو تراه العيون لجريانه على الأرض .

قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .

هنا تصريح بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، والآية تلمس قلوبهم فتقول : أخبروني ، إن ذهب ماؤكم بعيدا في الأرض ، لا تستطيع الدلاء أن تنقله إليكم ، هل هناك أحد غير الله يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر تراه العين ؟ فمن فضل الله أن أجرى الماء للناس ، يستفيدون به في الزراعة والشرب ونواحي الحياة المتعددة .

قال تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي . . . ( الأنبياء : 30 ) .

وقال سبحانه وتعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أن نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون . ( الواقعة : 68 -70 ) .

وبذلك تختم سورة الملك ، سورة أرست دعائم الإيمان بالله الخالق ، وحقيقة الابتلاء والرزق ، والعلم المطلق ، والسر والنجوى ، سورة تبين أن الكون كله في قبضة الله ، وفيها منهج حياة المؤمن مع ربه ومع نفسه ومع الناس .

ختام السورة:

***

خلاصة ما اشتملت عليه سورة الملك

1-وصف السموات .

2-بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف .

3-وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة .

4-التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك .

i في ظلال القرآن 29/184 .

ii الله والعلم الحديث ، للأستاذ عبد الرزاق نوفل ، ص57 .

iii بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزبادي 1/473 .

iv رواه أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما ، وانظر الترغيب والترهيب .

v إن العبد إذا وضع في القبر وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع :

رواه البخاري في الجنائز ( 1338 ، 1374 ) ومسلم في الجنة ( 2870 ) وأبو داود في الجنائز ( 3231 ) وفي السنة ( 4751 ) والنسائي في الجنائز ( 2049 ) وأحمد في مسنده ( 11862 ) من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ) . وأحمد في مسنده ( 8358 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا ) . ورواه أبو داود في السنة ( 4753 ) من حديث البراء .

vi والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم :

رواه البخاري في المغازي ( 3976 ) من حديث أبي طلحة أن انبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( فلان ابن فلان ) ويا فلان ابن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . قال : فقال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) . قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندما . ورواه البخاري في الجنائز ( 1370 ) وفي المغازي ( 4026 ) من حديث ابن عمر قال : اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال : ( وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ؟ فقيل له : تدعو أمواتا ؟ فقال : ( ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2873 ) من حديث أنس كنت مع عمر ( ح ) وحدثنا شيبان بن فروخ واللفظ له حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال : فجعلت أقول لعمر أما تراه ، فجعل لا يراه ، قال : يقول عمر : سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : ( هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله ) : قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال : ( يا فلان ابن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا ) ؟ قال عمر : يا رسول الله ، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2875 ) من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : ( يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ ) فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا ، قال : ( والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ) ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر .

vii لن يهلك الناس حتى يعذروا :

رواه أبو داود في الملاحم ( 4347 ) وأحمد في مسنده ( 17835 ) من حديث أبي البختري قال : أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول- وقال سليمان : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم ) .

viii مختصر تفسير ابن كثير ، بتحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد 3 ، ص528 .

ix تتمة الحديث : ( سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ) .

x مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم :

رواه البخاري في الأدب ( 6011 ) ، ومسلم في البر والآداب ( 2586 ) ، وأحمد ( 17632 ، 17648 ) ، من حديث النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

ثم أخبر عن انفراده بالنعم ، خصوصًا ، بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي : غائرًا { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } تشربون منه ، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم ؟ وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى .

تمت ولله الحمد{[1186]} .


[1186]:- في ب: تم تفسير سورة الملك والحمد لله.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال لأهل مكة: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا} يعني ماء زمزم وغيره {غورا} يعني غار في الأرض، فذهب فلم تقدروا عليه.

{فمن يأتيكم بماء معين} يعني ظاهرا تناله الدلاء...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُل "يا محمد لهؤلاء المشركين: "أرأَيْتُمْ" أيها القوم العادلون بالله، "إن أصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرا"، يقول: غائرا لا تناله الدلاء "فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَعِينٍ"، يقول: فمن يجيئكم بماء معين، يعني بالمعين: الذي تراه العيون ظاهرا... عن ابن عباس، قوله: "فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِين"، يقول: بماء عذب...

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "قُلْ أرأيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرا": أي ذاهبا، "فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَعِينٍ"، قال: الماء المعين: الجاري.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{فَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ} فيه أربعة أوجه:

...

...

...

...

...

...

...

...

...

.

الثالث: أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قال قوم: الماء المعين الذى تراه العيون ....

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم... ولم يكن لواحدٍ عن ذلك جواب...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

يعني: أن الله هو القادر أن يأتي به [الماء]، ولا تصلون إليه بأنفسكم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والمعين: فعيل من معن الماء إذا كثر.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

واعلم أنه لما ذكر أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره، ذكر الدليل عليه، فقال تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}. والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر، أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين، فلا بد وأن يقولوا: هو الله، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وهو كقوله: {أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون}...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

ولما ذكر العذاب، وهو مطلق، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء، وهو عذاب مخصوص...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو سبب للحياة وعدمه سبب للموت، فقال قارعاً بالتنبيه مشيراً بتكرير الأمر إلى مزيد التوبيخ والزجر والتبكيت دالاً على تعيين ما أبهم من أهل الضلال، ومصرحاً بما لوح إليه من ذلك الإجمال. {قل} أي يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا: {أرءيتم} أي أخبروني إخباراً لا لبس فيه ولا خفاء، ولما كان شديد العناية بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، سكن قلبه في وعيدهم بالإشارة إلى الرفق بهم لأجله، فابتدأ الوعيد بحرف الشك فقال: {إن} ولما كانت النعمة أشد ما يكون إذا كانت في الصباح الذي هو موضع ارتقاب الفلاح قال: {أصبح مآؤكم} أي الذي تعدونه في أيديكم -بما نبهت عليه الإضافة. ولما كان المقصود المبالغة، جعله نفس المصدر فقال: {غوراً} أي نازلاً في الأرض بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع حيلة- بما دل على ذلك الوصف بالمصدر {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وافتقاركم، وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين} أي جار دائماً لا ينقطع أو ظاهراً للأعين سهل المأخذ إلا الله رب العالمين، فإنه هو القادر على ذلك، فقد رجع ذلك الآخر كما ترى على ذلك الأول، وعانقه على أحسن وجه وأكمل -والله أعلم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا تنتهي هذه السورة، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات، وهذه الرحلات والجولات. في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف. وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا. أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب. إنها سورة ضخمة. سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها. وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد! وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة، وحقيقة الهيمنة المطلقة. وحقيقة الابتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء. وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله. وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى. وحقيقة مصدر الرزق. وحقيقة حفظ الله للخلائق، وحضوره سبحانه -مع كل مخلوق... وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه. وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود. هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله. مع ربه. ومع نفسه. ومع الناس. ومع الأحياء. ومع الكون كله من أحياء وأشياء. والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه، واستقباله للحياة ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إيماءٌ إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة مِن (جُرْهم) التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجَر بابنه إسماعيل ففجَّر الله لها زمزم، ولمحتْ القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفَر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئراً تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قُبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجَفْر (بالجيم) لبني تيم بن مُرة، وبئر تسمى الجَم ذكرها ابن عطية وأهملها « القاموس» و« تاجه»، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

فماء هذه الآبار هو الماء الذي أُنذروا بأنه يصبح غوراً، وهذا الإِنذار نظير الواقع في سورة القلم (17 -33) {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} إلى قوله: لو كانوا يعلمون.

والغور: مصدر غارت البئر، إذا نَزح ماؤها فلم تنله الدلاء.

والمراد: مَاء البئر كما في قوله: {أو يصبح ماؤها غوراً} في ذكر جنة سورة الكهف (41).

وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض، والإِخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عَدل ورِضَى. والمعين: الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبه.

والاستفهام في قوله: {فمن يأتيكم بماء} استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء مَعِين: أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله {أمَّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان} [الملك: 20] الآيتين.

وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان. ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

قوله تعالى : " قل أرأيتم " يا معشر قريش " إن أصبح ماؤكم غورا " أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء . وكان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون . " فمن يأتيكم بماء معين " أي جار ، قاله قتادة والضحاك . فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله ، فقل لهم لِمَ تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم . يقال : غار الماء يغور غورا ، أي نضب . والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما تقول : رجل عدل ورضا . وقد مضى في سورة " الكهف{[15209]} " ومضى القول في المعنى في سورة " المؤمنون{[15210]} " والحمد لله . وعن ابن عباس : " بماء معين " أي ظاهر تراه العيون ، فهو مفعول . وقيل : هو من مَعَنَ الماءُ أي كثر ، فهو على هذا فعيل . وعن ابن عباس أيضا : أن المعنى : فمن يأتيكم بماء عذب . والله أعلم{[15211]} .


[15209]:راجع جـ 10 ص 409.
[15210]:راجع جـ 12 ص 112.
[15211]:في هـ: "ختمت السورة والحمد لله رب العالمين".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرٗا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۭ} (30)

ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته ، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء ، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو {[67172]}سبب للحياة{[67173]} وعدمه سبب للموت ، فقال قارعاً بالتنبيه مشيراً بتكرير الأمر إلى مزيد التوبيخ والزجر والتبكيت دالاً على تعيين ما أبهم من أهل الضلال ، ومصرحاً بما لوح إليه{[67174]} من ذلك الإجمال . { قل } أي يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا : { أرءيتم } أي أخبروني إخباراً لا لبس فيه {[67175]}ولا خفاء{[67176]} ، ولما كان شديد العناية بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، سكن قلبه في وعيدهم بالإشارة إلى الرفق بهم لأجله ، فابتدأ الوعيد بحرف الشك فقال : { إن } ولما كانت{[67177]} النعمة أشد ما يكون إذا كانت في الصباح الذي هو موضع ارتقاب{[67178]} الفلاح قال : { أصبح مآؤكم } أي الذي تعدونه في أيديكم - بما نبهت عليه الإضافة .

ولما كان المقصود المبالغة ، جعله نفس المصدر فقال : { غوراً } أي نازلاً في الأرض بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع حيلة - بما دل على ذلك الوصف{[67179]} بالمصدر { فمن يأتيكم } على ضعفكم حينئذ وافتقاركم ، وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم { بماء معين * } أي جار دائماً لا ينقطع أو {[67180]}ظاهراً للأعين{[67181]} سهل المأخذ{[67182]} إلا الله رب العالمين ، فإنه هو القادر على ذلك{[67183]} ، فقد رجع ذلك الآخر كما ترى على ذلك الأول ، وعانقه على أحسن وجه وأكمل - والله أعلم .


[67172]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[67173]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[67174]:- زيد من ظ وم.
[67175]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[67176]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[67177]:- من ظ وم، وفي الأصل: كان.
[67178]:- من ظ وم، وفي الأصل: ارتفاق.
[67179]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالوصف.
[67180]:- من ظ وم، وفي الأصل: "و".
[67181]:- زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ وم فحذفناها.
[67182]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[67183]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.