لذلك يقرر الله سبحانه ، معجبا رسوله [ ص ] من أمر القوم ، أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء ، حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة . وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه ، فاعترفوا بالحق بعد ما غاب عنهم الافتراء :
( انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
فالكذب منهم كان على أنفسهم ؛ فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكا ، وافتروا على الله هذا الافتراء . وقد ظل عنهم ما كانوا يفترون وغاب ، في يوم الحشر والحساب !
هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته : أنهم ما كانوا مشركين . وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك . فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله ، وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله - كما تقول بعض التفاسير - فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثا . . إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب ؛ وأنمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك . ثم تعجيب الله - سبحانه - من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا ؛ والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة !
القول في تأويل قوله تعالى : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد فاعلم كيف كذب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثان والأصنام في الاَخرة ، عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها متخلقين في الدنيا من الكذب والفرية .
ومعنى النظر في هذا الموضع : النظر بالقلب لا النظر بالبصر ، وإنما معناه : تبين ، فاعلم كيف كذبوا في الاَخرة . وقال : «كذبوا » ، ومعناه : يكذبون ، لأنه لما كان الخبر قد مضى في الاَية قبلها صار كالشيء الذي قد كان ووجد . وضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول : وفارقهم الأنداد والأصنام وتبرّءوا منها ، فسلكوا غير سبيلها لأنها هلكت ، وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتزاء ، ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله وعبادتهم إياه وإشراكهم إياها في سلطان الله ، فضلّت عنهم ، وعوقب عابدوها بفريتهم . وقد بينا فيما مضى أن معنى الضلال : الأخذ على غير الهدى . وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سعة رحمة الله يومئذٍ . ذكر الرواية بذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : قال الله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الإسلام فقالوا : تعالو لنجحد قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : قول أهل الشرك حين رأوا الذنوب تغفر ، ولا يغفر الله لمشرك ، انظر كيف كذبوا على أنفسهم بتكذيب الله إياهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ ثم قال : ولا يَكْتُمونَ الله حَدِيثا بجوارحهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن حمزة الزيات ، عن رجل يقال له هشام ، عن سعيد بن جبير : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : حلفوا واعتذروا ، قالوا : والله ربنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير ، قال : أقسموا واعتذروا : والله ربنا .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن حمزة الزيات ، عن رجل يقال له هشام ، عن سعيد بن جبير بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن سفيان بن زياد العصفري ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد ، قال من فيها من المشركين : تعالوا نقول : لا إله إلاّ الله ، لعلنا نخرج مع هؤلاء قال : فلم يصدّقوا ، قال : فحلفوا : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : فقال الله : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ : أي يشركون به .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلاّ مسلم ، قالوا : تعالوا إذا سئلنا قلنا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ . فسئلوا ، فقالوا ذلك ، فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم ، فودّ الذين كفروا حين رأوا ذلك لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا .
حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن خلف ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : يأتي على الناس يوم القيامة ساعة لما رأى أهل الشرك أهل التوحيد يُغْفر لهم ، فيقولوا : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال حدثنا سفيان عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، أنه كان يقول : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يخفضها . قال : أقسموا واعتذروا . قال الحرث : قال عبد العزيز ، قال سفيان مرّة أخرى ، ثني هشام ، عن سعيد بن جبير .
قوله : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } جعل حالهم المتحدّث عنه بمنزلة المشاهد ، لصدوره عمّن لا خلاف في أخباره ، فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدلّ على النظر إليه كأنّه مشاهد حاضر .
والأظهر أنّ { كيف } لمجرّد الحال غير دالّ على الاستفهام . والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيّفهم بها . وقد تقدّمت له نظائر منها قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ] . وجعل كثير من المفسّرين النظر هنا نظراً قلبياً فإنّه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلّقاً عن العمل بالاستفهام ، أي تأمّل جواب قول القائل : كيف يفترون على الله الكذب تجده جواباً واضحاً بيّناً .
ولأجل هذا التحقّق من خبر حشرهم عبّر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله : { كذبوا على أنفسهم } . وكذلك قوله { وضلّ عنهم ما كانوا يفترون } .
وفعل ( كذب ) يعدّى بحرف ( على ) إلى من يخبّر عنه الكاذب كذباً مثل تعديته في هذه الآية ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { من كذب عليّ معتمداً فليتبوّأ مقعده من النار } ، وأمّا تعديته إلى من يخبره الكاذب خبراً كذباً فبنفسه ، يقال : كذبك ، إذا أخبرك بكذب .
وضلّ بمعنى غاب كقوله تعالى : { ضلَلْنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] ، أي غيّبنا فيها بالدفن . و { ما } موصولة و { يفترون } صلتها ، والعائد محذوف ، أي يختلقونه وماصْدق ذلك هو شركاؤهم . والمراد : غيبة شفاعتهم ونصرهم لأنّ ذلك هو المأمول منهم فلمّا لم يظهر شيء من ذلك نُزّل حضورهم منزلة الغيبة ، كما يقال : أُخِذتَ وغاب نصيرك ، وهو حاضر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.