في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون ، وفي أرجاء الوجود ، وفي أحوال السماء والأرض ، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة ، ومن كل إدعاء بمعرفة الغيب ، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر :

( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ? ) . .

وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم ، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الإتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور فيه ، بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره . ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس ! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين ، وخلو الأرض من رسول . . أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا ، ولا ضرورة لتقصيها . إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها .

وهذا النفر من الجن يقول : إن استراق السمع لم يعد ممكنا ، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد ، يرجمهم بالشهب ، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم . ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه . فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض : قدر أن ينزل بهم الشر . فهم متروكون للضلال ، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر . فهي الخير ، وعاقبتها هي الخير .

وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة . وتمحض الغيب لله ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل ! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير !

أما أين يقف ذلك الحرس ? ومن هو ? وكيف يرجم الشياطين بالشهب ? فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ؛ ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ؛ لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا !

ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون !

فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل ؛ وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره . . فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل . . ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة . . . الخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية ! ! !

من أين جاءوا بهذا ? من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ?

إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه . . أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن . ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله ! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته . .

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن . . . وهم مع ذلك يؤلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة فيعقولهم ، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود . .

فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها ، فهم مضحكون حقا ! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه ، والتي يستخدمها في تجاربه . وهذا لا ينفي وجودها طبعا ! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين ، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه ! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول ، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي ، ممن ينكرون حقائق الديانات ، وحقائق المجهول !

إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى . وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا . وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول . ومصدره هو القرآن والسنة . وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير . .

وإن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول : والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا . . ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده ، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده . وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه ، ولا حكمة في إعانته عليه . لأنه ليس من شأنه ، ولا داخلا في حدود اختصاصه . والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله ، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له ، لأنه أكبر من طاقته . وبالقدر الذي يدخل في طاقته . ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير . .

فأما الذين اهتدوا بهدى الله ، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله . وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق ، وحكمته في الخلق ، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم . واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها ، على هدى من الله ، متجهين إليه ، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع .

وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين :

فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى ، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته ، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتهابالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار ، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث ! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .

فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى ، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحا عن المجهول ، الذي ليس إليه من سبيل وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله ! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح ، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع " مجهول الكنه " ويكاد يكون مجهول القانون !

وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيء لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

وقوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ : وأنا لا ندري أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض ، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا فيها بالشهب أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا يقول : أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولاً مرشدا يرشدهم إلى الحقّ . وهذا التأويل على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد قبل .

وذُكر عن الكلبي في ذلك ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن الكلبي في قوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم أو يعصوه فيهلكهم .

وإنما قلنا القول الأوّل لأن قوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض عقيب قوله : وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ للسّمْعِ . . . الاَية ، فكان ذلك بأن يكون من تمام قصة ما وليه وقرب منه أولى بأن يكون من تمام خبر ما بعد عنه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى : وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض ، أي الناس ، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك . هذا توجيه القراءة بفتح همزة { أنا } ومحاولة غير هذا تكلف .

وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم : { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } [ الجن : 9 ] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه .

فحاصل المعنى : إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء .

وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله : { وإنا منا الصالحون } [ الجن : 11 ] ثم قولهم : { وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } [ الجن : 12 ] ثم قولهم : { وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به } إلى قوله : { فكانوا لجهنم حَطباً } [ الجن : 13 15 ] .

ومفعول { ندري } هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله : { أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } وهو الذي علَّق فعل { ندري } عن العمل ، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولاً يستخلص من الاستفهام تقديره : لا ندري جواب هذا الاستفهام ، وذلك تقديرُ معنًى لا تقديرُ إعراب . هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [ الأحقاف : 9 ] .

وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب ، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به } [ الجن : 1 ، 2 ] وقولهم : { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيراً بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع .

وتكرير ( إنّ ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضاً لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء .

والرشَد : إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير ، فلهذا الاعتبار جعل مقابلاً للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله : { أم أراد بهم ربهم رشداً ، } جرياً على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه .