( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ )
وكلهم مرجوعون إلى الله ، محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض ، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة : موت أو قتل في الموعد المحتوم ، والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة ، أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال !
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة ، وما وراء الابتلاء من جزاء . . وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة ، وفيما صاحبها من ملابسات . .
{ وَلَئِنْ مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولئن متم أو قتلتم أيها المؤمنون ، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم ، فيجازيكم بأعمالكم ، فآثِروا ما يقرّبكم من الله ، ويوجب لكم رضاه ، ويقرّبكم من الجنة ، من الجهاد في سبيل الله ، والعمل بطاعته على الركون إلى الدنيا ، وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم ، بل هو زائل عنكم ، وعلى ترك طاعة الله والجهاد ، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم ، ويوجب لكم سخطه ، ويقرّبكم من النار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَئِنْ مُتّمْ أوْ قُتِلْتُمْ } أيّ ذلك كان ، { لإلِى اللّهِ تُحْشَرُونَ } أي أن إلى الله المرجع ، فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ، ولا تغترّوا بها ، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه آثر عندكم منها .
وأدخلت اللام في قوله : { لإلِى اللّهِ تُحْشَرُونَ } لدخولها في قوله «ولئن » ، ولو كانت اللام مؤخرة ، إلى قوله : «تحشرون » ، لأحدثت النون الثقيلة فيه ، كما تقول في الكلام : لئن أحسنت إليّ لأحسننّ إليك ، بنون مثقلة ، فكان كذلك قوله : «ولئن متم أو قتلتم لتحشرنّ إلى الله » ، ولكن لما حيز بين اللام وبين تحشرون بالصفة أدخلت في الصفة ، وسلمت «تحشرون » ، فلم تدخلها النون الثقيلة ، كما تقول في الكلام : لئن أحسنت إليّ لإليك أحسن ، بغير نون مثقلة .
ثم قدم الموت في قوله تعالى : { ولئن متم أو قتلتم } لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وآية تزهيد في الدنيا والحياة ، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان ، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتم » بكسر الميم و «متنا » و «مت » بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بضم الميم في جميع القرآن ، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن ، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين «أو مُتم ولئن مُتم » فقط ، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن ، قال أبو علي : ضم الميم هو الأشهر والأقيس ، مت تموت مثل : قلت تقول وطفت تطوف ، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيراً ، وليس كما شذ قياساً واستعمالاً كشذوذ اليجدع{[3651]} ونحوه ، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا{[3652]} :
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر . . . وما مر من عمري ذكرت وما فضل
وقوله تعالى : { لمغفرة } رفع بالابتداء { ورحمة } ، عطف على المغفرة و { خير } خبر الابتداء ، والمعنى : المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير ، فجاء لفظ المغفرة غير معرف إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن ، وتحتمل الآية أن يكون قوله { لمغفرة } إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله { خير } صفة لخبر الابتداء ، وقرأ جمهور الناس «تجمعون » بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام ، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص «يجمعون » بالياء ، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم .
ثم ذكر تعالى الحشر إليه ، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات ، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة ، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى .
واللام في قوله : { ولئن قتلتم } موطّئة للقسم أي مؤذنة بأنّ قبلها قسماً مقدّراً ، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلاّ مع الشرط . واللام في قوله : { لمغفرة } هي لام جواب القسم . والجوابُ هو قوله : { لمغفرة من الله ورحمة خير } لظهور أنّ التقدير : لمغفرة ورحمة لكم . وقرأه نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : مِتّم بكسر الميم على لغة الحجاز لأنَّهم جعلوا مَاضيهُ مثل خَاف ، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قَام فقالوا : يموت ، ولم يقولوا : يمات ، فهو من تداخل اللغتين . وأمَّا سُفلى مضر فقد جاءوا به في الحالين من باب : قام فقرأوه : مُتُّم . وبها قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عَمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب . وقرأ الجمهور { ممَّا تجمعون } بتاء الخطاب وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب على أنّ الضّمير عائد إلى المشركين أي خير لكم من غنائم المشركين الّتي جمعوها وطمعتم أنتم في غنمها .
وقُدّم القتل في الأولى والموتُ في الثانية اعتباراً بعطف ما يظنّ أنّه أبْعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سبباً للمغفرة أمر قريب ، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد ، وكذلك تقديم الموت في الثَّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنَّه بعيد عن أن يعقبه الحشر ، مع ما فيه من التفنّن ، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.