في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

258

والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم - عليه السلام - وملك في أيامه يجادله في الله . لا يذكر السياق اسمه ، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا . وهذا الحوار يعرض على النبي [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل ، الذي حاج إبراهيم في ربه ؛ وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب :

( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ إذ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر . والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .

إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده ، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم ! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده ، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع .

إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر . هذا السبب هو ( أن آتاه الله الملك ) . . وجعل في يده السلطان ! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف ، لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله ، ولا يدركون مصدر الإنعام . ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ؛ ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين ! فهم حاكمون لأن الله حكمهم ، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم . فهم كالناس عبيد لله ، يتلقون مثلهم الشريعة من الله ، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء !

ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه :

( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ ) . .

ألم تر ؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع ؛ وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء . فالفعلة منكرة حقا : أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء ! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب ، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله .

( قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ) . .

والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة ، المعروضتان لحس الإنسان وعقله . وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير ، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري . وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق . ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء .

إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة . ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات . ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق . . قوة الله . .

ومن ثم عرف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره . . قال : ربي الذي يحيي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع .

وما كان إبراهيم - عليه السلام - وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء - ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء . فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه . ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية . فقال لإبراهيم : أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم ، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له ، وتسلم بحاكميته :

( قال : أنا أحيي وأميت ) !

عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة . حقيقة منح الحياة وسلبها . هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا . . وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية ، إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ؛ وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . . إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ؛ ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض ، إنما هو مصرف هذا الكون كله . ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم :

( قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) . .

وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك ؛ تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ؛ ولا تتخلف مرة ولا تتأخر . وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون ، ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي ، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه . ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل :

( فبهت الذي كفر ) . .

فالتحدي قائم ، والأمر ظاهر ، ولا سبيل إلى سوء الفهم ، أو الجدال والمراء . . وكان التسليم أولى والإيمان أجدر . ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر ، فيبهت ويبلس ويتحير . ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية ، ولم يرغب في الحق ؛ ولم يلتزم القصد والعدل :

( والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .

ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة . مثلا للضلال والعناد ؛ وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين ؛ وفي ترويض النفوس على تعنتالمنكرين !

كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . .

( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! ) . . حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق . حقيقتان كونيتان هائلتان ؛ وهما - مع ذلك - مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار . لا تحتاجان إلى علم غزير ، ولا إلى تفكير طويل . فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه ، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر ، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين . إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم ، ولا تستقيم بدونه حياتهم ، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم . . ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم . . يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع ، والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة ، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجيء إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد !

والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري . فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء - كما يبحث عن التناسل والتكاثر - بحثا فطريا ، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج ، أو حتى ينمو العلم ويغزر . . وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار . . والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء . ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ) يعني تعالى ذكره بقوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم يعني الذي خاصم إبراهيم يعني إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه أن آتاه الله الملك يعني بذلك حاجة فخاصمه في ربه لأن الله آتاه الملك وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدصلى الله عليه وسلم من الذي حاج إبراهيم في ربه ولذلك أدخلت إلى في قوله ألم تر إلى الذي حاج وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا ما ترى إلى هذا والمعنى هل رأيت مثل هذا أو كهذا وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرقخشذ ابن سام بن نوح . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى قال ثنا أبو نعيم عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله .

حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن النضر بن عدي عن مجاهد مثله .

حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قال كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمروذ وهو أول ملك تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .

الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال هو اسمه نمروذ وهو أول من تجبر في الأرض حاج إبراهيم في ربه .

حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكاٌ يقال له نمروذ وهو أول جبار تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو نمروذ بن كنعان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو نمروذ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، بمثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمروذ . قال ابن جريج : هو نمروذ ، ويقال إنه أول ملك في الأرض .

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }

يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : ربيَ الذي يحيي ويميت ، يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء ، قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله ، فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له . وذلك عند العرب يسمى إحياء ، كما قال تعالى ذكره : { وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا } وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني انقطع وبطلت حجته ، يقال منه : بُهت يُبْهَتُ بَهْتا ، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : بَهِتَ ، ويقال : بَهَتّ الرجل إذا افتريت عليه كذبا بَهْتا وَبُهْتانا وبَهَاتةً . وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ : «فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ » بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { إذْ قال إبْرَاهِيمُ رَبيَ الّذِي يُحْيي ويُمِيتُ ، قال أنا أُحْيِي وأُمِيتُ } وذكر لنا أنه دعا برجلين ، فقتل أحدهما ، واستحيا الاَخر ، فقال : أنا أحيي هذا ، أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ، قال إبراهيم عند ذلك : { فإنّ اللّه يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أنا أحيي وأميت : أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين والكافرون : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت . حتى مرّ إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، { قالَ إبراهيمُ فإنّ اللّهَ يَأتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } قال : فردّه بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله ، قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته ، فإذا هي بأجود طعام رأته ، فصنعت له منه ، فقرّبته إليه . وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به . فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل ربّ غيري ؟ فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلى العظام ، والمِلك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرْحَمُ الناس به من جَمَعَ يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذّبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : { فَأتى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرّتين ، فقال : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . { قالَ إبرَاهِيمُ فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا . وجُوَالِقا إبراهيم يصطفقان ، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبيّيّ ، حتى إذا كان الليل أهرقته . قال : فملأهما ثم خيطهما ، ثم جاء بهما ، فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت صنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلاً قليلاً لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغِرارتين ففتقتها ، فإذا حوّاري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فطحنته وعجنته . فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أيّ شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جُوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير . قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الاَخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قال هو ، يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت ، فدعا برجلين ، فاستحياأحدهما ، وقتل الاَخر ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : أي أستحيي من شئت ، فقال إبراهيم : { فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر ، وقال : إن هذا إنسان مجنون ، فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره : { وَتِلكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } فكان يزعم أنه ربّ . وأمر بإبراهيم فأخرج .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت . قال ابن جريج ، كان أتى برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الاَخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي ، قال : أستحيي فلا أقتل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ذكر لنا والله أعلم . أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبده ، وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمّته ، وأعفو عن الاَخر فأتركه وأكون قد أحييته . فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، أعرفْ أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني وقعت عليه الحجة ، يعني نمروذ

وقوله : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ، لأن أهل الباطل حججهم داحضة . وقد بينا أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر : وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (258)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )

{ ألم تر } تنبيه ، وهي رؤية القلب( {[2473]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم ترْ » بجزم الراء( {[2474]} ) ، و { الذي حاج إبراهيم } هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة( {[2475]} ) ، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم( {[2476]} ) وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض وهذا مردود . وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل( {[2477]} ) . وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته( {[2478]} ) وهو أحد الكافرين . والآخر بخت نصر . وقيل : إن { الذي حاج إبراهيم } نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما : ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة( {[2479]} ) فكلما جاء قوم قال : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار ، فقال له من ربك وإلهك ؟ قال { قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت } ، فلما سمعها نمرود قال : { أنا أحيي وأميت } ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس ، { فبهت الذي كفر } ، وقال : لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيب من رمل كالدقيق ، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحُوَّارَي( {[2480]} ) فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك ، وقال الربيع وغيره في هذه القصص : إن النمرود لما قال : { أنا أحيي وأميت } أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال : قد أحييت هذا وأمتُّ هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت ، والرواية الأخرى ذكر السدي : أنه لما خرج إبراهيم من النار( {[2481]} ) أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيى ويميت ، قال نمرود : { أنا أحيي وأميت } ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون ، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا ، وتركت اثنين فماتا ، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت . وذكر الأصوليون في هذه الآية : أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة ، لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة ، ففزع نمرود إلى المجاز( {[2482]} ) وموه به على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل ، وانتقل معه من المثال ، وجاءه بأمر لا مجاز فيه ، { فبهت الذي كفر } ، ولم يمكنه أن يقول : أنا الآتي بها من المشرق ، لأن ذوي الأسنان يكذبونه( {[2483]} ) ، وقوله { حاجّ } وزنه «فاعل » من الحجة أي جاذبه أياها والضمير في { ربه } يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام ، ويحتمل أن يعود على { الذي حاج } ، و { أن }( {[2484]} ) مفعول من أجله والضمير في { آتاه } للنمرود ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة ، وهذا تحامل من التأويل( {[2485]} ) ، وقرأ جمهور القراء { أن أحيي } بطرح الألف التي بعد النون من { أنا } إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع ، فإن ورشاً وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن ، مثل [ أنا أحيي ] [ أنا أخوك ] ( {[2486]} ) إلا في قوله تعالى :{ إن أنا إلا نذير }( {[2487]} ) [ الأعراف : 188 ] [ الشعراء : 115 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة ، قال أبو علي : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون( {[2488]} ) ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحياناً في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف ، وهي مثل ألف حيهلا .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي ، فتأمل . قال أبو علي : فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف ، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر :

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني . . . حميداً قد تذريت السناما( {[2489]} )

وقرأ الجمهور( {[2490]} ) : «فبُهِتَ » الذي بضم الباء وكسر الهاء ، يقال بهت الرجل : إذا انقطع وقامت عليه الحجة . قال ابن سيده : ويقال في هذا المعنى : «بَهِتَ » بفتح الباء وكسر الهاء ، «وَبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء . قال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ، «بَهَت » بفتح الباء والهاء .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول( {[2491]} ) دون تقييد بفتح الباء والهاء ، قال ابن جني : قرا أبو حيوة : «فبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع : «فبَهَت » بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون «بَهَت » بفتحهما لغة في بهت . قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهِت » بكسر الهاء كَخَرِقَ ودهِش( {[2492]} ) ، قال : والأكثر بالضم في الهاء ، قال ابن جني : يعني أن الضم يكون للمبالغة ، قال الفقيه أبو محمد : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ { فبهت } بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، وقوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } ، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته .

والمعنى : لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم ، لأنه لا هدى في الظلم ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص ، كما ذكرنا( {[2493]} ) ، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان . ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالماً .


[2473]:- أي لا رؤية البصر، ذلك أن الرؤية بمعنى الإدراك تكون بالقلب، وهي مضمنة معنى التنبيه، أي: تَنَبَّهْ إلى أمر الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، والمُحاجَّة المجادلة والمناظرة، وهي لا تكون إلا بدليل يعرفه الخصم ويسلمه، لأن المقصود من المناظرة رد الخصم إلى الحق والصواب، ولا يكون ذلك إلا بما يعرفه، وأما رده بما لا يعرفه ولا يعترف به فهو من باب التكليف بما لا يطاق والتضييع لفائدة المناظرة. واحتجاجات القرآن كلها جاءت على هذا النمط. وفي الآية دليل الجدال والحجاج في الدين.
[2474]:- إجراء للوصل مجْرى الوقف.
[2475]:- سلطها الله عليه بأن دخلت إلى دماغه وعذبه بها مدة من الزمان يعلمها الله ثم أهلكه كما أهلك غيره من الطغاة والمتجبرين.
[2476]:- زيد بن أسلم بن ثعلبة بن عدي – ابن عم ثابت بن أقرم، ذكر أنه شهد بدراً، وإنه شهد صفين مع علي – الإصابة 1-542.
[2477]:- بناه إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد كما قال سبحانه: [فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السَّقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون].
[2478]:- أي طبيعته وسياسته.
[2479]:- أي الطعام، قال تعالى: [ونَمِيرُ أهْلَنَا].
[2480]:- بتشديد الواو المفتوحة، هو الدقيق الأبيض الخالص.
[2481]:- التي أُلقي فيها بأمر النمروذ وقال الله لها: [يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم].
[2482]:- يعني أنه جعل القتل إماتة والكفَّ عن القتل إحياءً.
[2483]:- يريد أن المسنين من أهل مملكته يكذبونه لو ادعى ذلك، إذ يعلمون أنه مُحْدَث. والشمس كانت تطلع من المشرق قبل حدوثه، واختلف المفسرون: أذلك انتقال من دليل إلى دليل أم دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه ؟ إلى الرأي الأول ذهب الزمخشري، قال: "وكان الاعتراض عتيداً، ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى مالا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة». ا. هـ. والرأي الثاني هو رأي المحققين من المفسرين، قالوا: «نحن نرى أشياء تحدث ولا يقدر أحد على إحداثها، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى، منها الإحياء والإماتة، ومنها الرعد والبرق، ومنها حركات الأفلاك والكواكب، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل، وكل ما فعله إبراهيم هو الانتقال من مثال إلى مثال أوضح منه».
[2484]:- أي لأن آتاه الله الملك، ويعني أن إيتاءه الملك أطغاه وأبطره وأورثه الكبر والكفر، ومن ثم كان الملك فتنة وبلية على صاحبه، فلو كان النمروذ بن كنعان فقيرا حقيرا مبتلى بالحاجات والضرورات لم تنزع نفسه إلى منازعة إبراهيم عليه السلام، وإلى دعواه الإحياء والإماتة، وتعرضه إلى إحراق إبراهيم بالنيران، وإنما وصل إلى هذه المعاطب والمهالك بسبب أنه ملك.
[2485]:- أي تكلف في التأويل، والذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى: [لا ينال عهدي الظالمين] والملك عهد منه، وقد يقال: الملك الظالم لا يناله عهد الله، وإن كان بإرادة الله.
[2486]:- من الآية (69) من سورة يوسف.
[2487]:- من الآية (188) من سورة الأعراف.
[2488]:- الكوفيون يقولون: الاسم هو (أنا) بكماله، وعليه فنافع في إثباته الألف جار على الأصل، ومن حذفها من القراءة إنما حذفها تخفيفا. والفتحة دالة عليها.
[2489]:- قال في "خزانة الأدب": نسب ياقوت هذا البيت إلى حميد بن محدل القضاعي وهو شاعر إسلامي، وتذرَّيْت السَّناما معناه: علوت ذروته، وحميداً بدل من النون في قوله فاعرفوني. وفي رواية: "أنا سيف العشيرة" بالفاء، وفي رواية: "جميعا" بدلا من: "حميدا".
[2490]:- حاصله أنه يقال: بُهت بضم الباء، وبَهُت بضم الهاء، وبَهِت بكسر الهاء، وبهَت بفتح الهاء، وقد قرئ بجميع هذه اللغات إلا أن قراءة الجمهور هي بالبناء للمفعول، وهي أفصحها وأشهرها حتى اقتصر عليها ابن قتيبة في "أدب الكاتب". ومعنى بهت: تحير ودهش – ويكون متعديا ولازما، والأكثر في اللازم الضم.
[2491]:- هو أحمد بن ملول التنوخي، يكنى أبا بكر، من أهل توزر – سمع مع سحنون، ورحل في طلب الحديث. ثقة مأمون، سمع منه كثير من الأعيان كالاكنافي وغيره، وكان فقيها عالما حسن المناظرة، ناظر محمد بن عبد الحكم بمصر، وألف تآليف كثيرة، توفي بتوزر سنة 262هـ، قاله ابن فرحون في "الديباج"، وقال القاضي عياض: في "المدارك": إنه ألف رقائق الفضيل ابن عياض، وكتاب زهد سفيان الثوري، وكتاب فضائل الأوزاعي، وكتاب فضائل طاوس اليمني، إلا أنه في النسخة المطبوعة بالمغرب ذكر بلفظ يلول بالياء، والمعروف ملول بالميم.
[2492]:- خَرق كتَعِب معناه: دهش، فقوله: ودَهش تفسير لما قبله.
[2493]:- أي: لا يهديهم في حججهم عند الخصومة، ويحتمل كما قال: لا يهدي من يوافي ظالما يوم القيامة، وهذا معنى الخصوص الذي أشار إليه.